جعفر الجمري
كيف ستحاور من يكرهك... عدوك، لو قُدِّر لك أن تخرج من قبرك لتضع حداً لتلك العداوة. ليس ذلك فحسب. أن تكون ميتاً وتعود إلى الحياة ضمن شروط، الأول أن يطلبك عدوك، أو أن تحظى بحال استثنائية تخرج بها من قبرك إلى العالم الذي تركته وراءك.
تستحضر وتجلب رواية الكاتب العُماني سليمان المعمري «الذي لا يحب جمال عبدالناصر»، الصادرة عن دار الانتشار العربي، في طبعتها الثانية العام 2014، إلى عُمان واحداً من الشخصيات التي لعبت دوراً كبيراً ومؤثراً في العالم الثالث عموماً والعالم العربي خصوصاً، الزعيم العربي جمال عبدالناصر، من خلال عدوِّه/بطلها الرئيسيِّ بسيوني سلطان، بكل ما في شخصيته من تناقض واضطراب. بكل كراهيته التي لا يمكن رسم حدود لها، يضعنا المعمري في صور منها، من خلال حوارات مليئة بالكوميديا السوداء... هنالك أيضاً عبث الرؤية لدى بسيوني؛ بذهاب الرواية في اتجاه تعرية وتهميش بطلها.
تحيلنا الرواية أيضاً إلى التبصّر في ما يدور حولنا، حتى وهو يأخذنا إلى فضاءات هي أكثر التصاقاً بالغيب والتخيّل، واضعة أمامنا سبباً وجيهاً ومحرّضاً كي لا نتخلّى عن مخيّلتنا أيضاً للخروج من سخرية وسوداوية ما نعيشه، في توظيف لماضٍ يتم استدعاؤه. لعب على الإسقاط بشكل مربك ومدهش.
كما تضعنا الرواية أمام حصتنا وحقنا في أن نكره، لكن ما هي محصِّلات تلك الكراهية في نهاية المطاف!
الرواية التي تبدأ بما يشبه الحلم، بكل تداعي السرد فيها، وبكل الكوميديا السوداء التي تمتلئ بها، لا تبتعد كثيراً عن تمنّي وتمثّل ذلك الحلم في واقع متشظٍّ، ولا يبعث على الفخر البتّة. هل نقول، إن الربيع العربي حاضر فيها؟ هو كذلك، وحضور فاقع أيضاً، لكنه لا يتورَّط في التسجيلية المملّة. وفي مشاهد الربيع العربي، يعمد المعمري للجوء إلى الاستدعاء، وقوفاً على تفاصيل تسردها إحدى شخصيات الرواية، في الاعتقال الأول، والاستدعاء الثاني. يضعنا هذه المرة أمام «ميدان التحرير» في عُمان، وفي مبنى صحيفة «المساء»، ويتحدّد في «صالة التحرير»!
حارس المقبرة... عبدالناصر
يمكن ربما قبل الانتهاء من قراءة الرواية الخروج باقتناع بأن عملاً روائياً كهذا سبقه تقصٍّ وبحث، بالاشتغال على جوانب «توثيقية» لا يمكن أن نغفل عنها.
مع فقرات قليلة من بدء الرواية، يطلب عبدالناصر من الحارس الخروج من قبره؛ إذ بلغه أن ثورة عظيمة أخرى قامت في مصر. يحدث حوار بين الاثنين نورد ما يقودنا إلى تلمُّس جوانب من فضاءاتها:
ابتسم الحارس بمكر: «ليس الأمر بهذه السهولة».
- وما الذي سيصعب الأمر؟... قبل سبعة عشر عاماً تقريباً سمحت لي بزيارة الشيخ متولي الشعراوي... ليس هذا فحسب بل سمحت لي بأن أحمل معي في الزيارة مرافقيْن أحدهما طبيب والآخر مهندي».
ضحك الحاس وقال:
- تلك كانت زيارة في منام الشيخ... هذه نقطة أولى... والنقطة الثانية هي أن الشعراوي نفسه هو الذي طلب لقاءك في لا وعيه، ولستَ أنت الذي طلب اللقاء... والنقطة الثالثة والأهم أن سبب إجابة طلب الشيخ هو كونه أحد أعدائك التاريخيين. «القانون هو القانون... أنت ظللت تسن القوانين في بلادك وتدعو إلى احترامها طوال حياتك، فلا أقل من أن تحترم القانون هنا أيضاً».
بعد فترة يعود الحارس إلى عبدالناصر بالمفاجأة التي تسرّه:
- «وأنا أقلّب دفتر العلاقات وجدت أن ثمة رجلاً ما زال على قيد الحياة يكن لك كراهية شديدة لدرجة أنها لو وضعت وحدها في كفة ميزان، ووضع بغض جميع الناس لك في الكفة الأخرى لرجحت كفته».
سنقف في الرواية على أسباب كل تلك الكراهية، وامتعاض بسيوني، بل والإحساس بالجنون والقرف في الوقت نفسه، في ثنايا الرواية، من بينها: قانون الإصلاح الزراعي، ومصادرة نحو 44 فدّاناً من ملكية جد بسيوني في قرية كمشيش، وما يحدث بعد المصادرة من توزيعها على صغار الفلاحين، وما رسخ في قناعة واعتقاد بسيوني بأن عبدالناصر مارس خيانة على جماعة الإخوان المسلمين، بانقلابه عليهم، والقناعة أيضاً بأنه لولاهم لما جاء إلى الحكم.
لابد لعبدالناصر أن يتساءل عن الشخص الذي بسببه سيتمكن من الخروج من قبره إلى العالم، ومن ضمن الشروط أن يطلب حيّ لقاءه، أو يخرج إلى شخص لا يشبهه أحد في كراهيته؛ لذا يستحضر عبدالناصر أسماء الذين لن يشك يوماً في أنهم يضمرون ويعلنون له كراهية. ربما أحد أبناء سيد قطب، أو أحد أبناء محمد نجيب، أو أحد أحفاد الملك فاروق، أو أحد أبناء غولدا مائير.
- كلا... ولا تتعب نفسك في محاولة معرفته، فليس من الشخصيات التي ذكرت، كما أنه لا يعيش في مصر الآن.
- إنه يعيش في سلطنة عُمان.
- لا يعقل أن يكون السلطان قابوس! فأنا متُّ بعد حكمه بشهرين.
- كلا... ليس هو... إنه مصري، ولكن يقيم في عُمان... سنسمح لك بخروج موقت من القبر لزيارة هذا الرجل، إن استطعت أن تسلَّ من قلبه ولو 1 في المئة من حقده الشديد عليك فستكون مكافأتك العودة إلى مصر حياً مُعزّزاً مُكرّماً.
عبدالناصر في مسقط
يضعنا المعمري أمام صور فيها الكثير من الكوميديا، بخروج عبدالناصر من قبره، وإيقاف التاكسي، حيث يطلب من السائق أن يأخذه إلى مطار القاهرة الدولي، والحديث الذي يدور بينهما، ولأنه لم يكن مسموحاً له بالكلام بحسب وصية الحارس، قبل أن ينجز مهمته، باستثناء الشخص «بسيوني سلطان».
من بعد الحوار بين سائق التاكسي وعبدالناصر وهو في طريقه إلى المطار، يفتح السائق مؤشر الراديو ليطلع منه صوت الرئيس محمد مرسي هادراً: «إن ثورة 23 يوليو العام 1952 كانت لحظة فارقة في تاريخ مصر المعاصر وأسست للجمهورية الأولى التي دعمها الشعب والتف حول قادتها وحول أهدافها الستة».
في المطار، وكما يكتب المعمري «وبقدرة سحرية لا تتأتى عادة إلا للموتى الموعودين بالحياة، غافل الجميع وزج بنفسه في رحلة الطيران العماني المتوجهة إلى مسقط (...)».
وصولاً إلى مسقط و «في منطقة الحمرية توقف التاكسي عند عمارة سكنية كبيرة، وهناك قرع باب الشقة رقم 18. فتح بسيوني سلطان الباب فرأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه... شهق شهقة وسقط مغشياً عليه».
مع دخول بسيوني في الاغماءة/الغيبوبة يجول بنا المعمري في مساحة من السائد من الدجل، في جانب من المجتمع العماني، إلى باصر، الذي يمارس السحر وادعاء كشف المستور، حيث أخذ ابن بسيوني إليه من طريق جارهم في البناية ناصر. باصر ذو الملامح الجامدة واللحية التي تتدلى من أسفل ذقنه «كلحية التيس»، وتشخيصه لحالة بسيوني سلطان: «يا ولدي جنِّية كبير ما مسلمة والعياذ بالله حطت ولدها الرضيع قدّام باب شقتكم، ولما خرج أبوك ما شاف الجنّي الصغير ووطاه فـ عينه... عشان كذا تأذّى... هذا قلب الأم يا ولدي... قلب الأم».
لم يوفر بسيوني مناسبة أو تعليقاً أو موقفاً فيه ذكر لعبدالناصر إلا وتركبه العفاريت، يصبح شخصاً آخر. قيل إنه خريج الأزهر، ولكنه ليس كذلك، قيل إن قلبه رقيق وسريع البكاء أمام أي موقف مهما صغر، ولكنه يخفي داخله الوحش والانتهازي والبذئ.
في صحيفة «المساء» تدور الأحداث... الحوار، وتنحشر معظم أحداث الرواية، بكل تلك السخرية اللاذعة واللذيذة والموجهة في الوقت نفسه. هناك تتضح المواقف والخلافات والصراعات، ويظل عبدالناصر في قلب الكثير منها، ومحط اهتمام ودفاع الذين يحبونه ويرون فيه بطلاً قومياً، وبسيوني الذي يراه نقيض كل ذلك. في الصحيفة يتركز الحوار بين المحررين في الصحيفة، التي تضم موظفين عمانيين وعرباً: مصريان وسوادني، وتونسي.
لا تغفل الرواية العروج على الربيع العربي، ذلك الذي انطلقت شرارته في العام 2011.
بسيوني الذي لا يجيد الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الناس، على رغم ما يبدو من تديّنه. يمكن أن يستفز بأبسط الأمور لكن اكبرها أن يتم استفزازه بمجرد ذكْر عبدالناصر.
سنجد في الرواية تقديماً للموازييك المذهبي في عُمان. صورة عن التسامح الجميل فيها
ليس جديداً أن يعمد المعمري إلى ترك الحرية لشخصياته كي يشكِّلوا صورتهم ودواخلهم وكذلك الأمر مع بطل الرواية بسيوني، لكن الكوميديا في ذلك التشكيل منحها قدرة على التحول والتحرك، بحيث لن تلمس ضموراً في حيوية شخصياتها.
فصول الرواية
أطلق المعمري على فهرس روايته «مُوجز الكراهية»، وجاءت في 15 فصلاً. العناوين الـ 15 جاءت كالآتي: الراوي العليم: زرني يا عَدُوِّي، جار النبي بسيوني سلطان: صوّتْ لمرسي يا ولد، رئيس القسم الديني: هل سيد قطب أباضي؟، المصحح السوداني: إنته أصلاً فلول وما لكش دعوة بالثورة، رئيس القسم الثقافي: إش جاب التفاح للبصل!، رئيس التحرير: بالضبط كأنك تسحب السيفون، رئيسة القسم الاقتصادي: تاريخ أيه وجزمة أيه يا زينب!، رئيس قسم المحليات: غاندي يفطر بـ»سويويا»!، عبدالله حبيب: المشي في جنازة رجل عظيم، زينب العجمي: سموها «نكسة»، جاتهم وكسة ، بسيوني سلطان: بالعصا على مؤخرته، المصحح التونسي: البلد بش يبيعوها، عضو اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان: يخيط فمه؟!، هل نحن في شيكاغو؟!، المترجم المصري: عُمان مذكورة في القرآن؟، والراوي العليم: أعرفك جيداً.
بقيت الإشارة إلى أن سليمان المعمري فاز بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة العام 2007 عن «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة». أصدر من المجموعات القصصية: «ربما لأنه رجل مهزوم»، و «عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل». وفي النقد والحوار: «يا عزيزي كلنا ضفادع»، «قريباً من الشمس»، «ليس بعيداً عن القمر»، «سعفة تحرك قرص الشمس»، و «الكلمة بين فضاءات الحرية وحدود المساءلة».
قالوا عن الرواية
ميسلون هادي: «هذه الرواية مكتوبة بجهد توثيقي كبير، وتستحق أن تصطف مع روايات عربية مهمة اعتمدت أسلوب البحث في كتابتها».
مجلة «نزوى»: «يمتلك المعمري قدرة هائلة على تحويل النقاشات التي تدور حول السياسة والحرية والمثقفين إلى مادة صالحة للإضحاك، على رغم أنك في عقلك تُدرك مقاصده البعيدة التي قد تحملك على الألم والتوجُّع، كما قد تفعل الكوميديا السوداء».
حسن مدن: «أتكون رواية (الذي لا يحب جمال عبدالناصر) التي تجلّت فيها الروح الساخرة للكاتب، رواية عن الربيع العربي وتداعياته؟ أتكون عن عُمان الحديثة في تحولاتها واختماراتها ووعودها، باستعادات لتاريخها القريب والبعيد؟ أتكون عن التاريخ العربي المعاصر؟... لعل الرواية عن هذا كله».
هيثم حسين: ينوّع الكاتب في روايته، بمنح الشخصيات فرصاً للتعبير عن ذواتها. يقدّم كل فصل على لسان شخصية تتحدث عن ذاتها، وعلاقتها مع محيطها».
ميزا الخويلدي: «هذه المزاوجة الدينية والسياسية التي تتعلق بأحداث ما زالت قائمة، وتتناول قضايا غالباً ما يجري السكوت عنها في دول الخليج، تمثل الجانب الأكثر بروزاً في رواية سليمان المعمري».