إذا كانت المباني القديمة في كل الحضارات هي الموروث الحضاري للأمم فإن القلاع والحصون القديمة ما هي إلاّ مثال منصوب للذكرى وابلاغنا بحضارة تلك الفترة وازدهارها على ارض عمان الطيبة التي اشتهر أهلها ببناء القلاع والحصون والأسوار والأبراج المنتشرة في الكثير من مناطق سلطنة عمان، والذي يعتبر شاهدا حيا على الرقي الحضاري الذي وصلت إليه البلاد خلال مختلف الحقب التاريخية فقد بني بعضها في فترة ما قبل الاسلام مثل بهلا - الرستاق - نخل والبعض الآخر في عهد اليعاربة في القرن الثاني عشر الهجري مثل قلعة نزوى جبرين والحزم وغيرها من الحصون.
إن عملية دراسة العمارة العمانية في القلاع والحصون تدلنا مفاتيح الحضارة للتاريخ العماني كما أن الحضارة المدنية في عمان من قصور ومساجد ومدارس تتحد مع العمارة الحربية في عمان من قلاع وحصون وأبراج وأسوار وكانت تعبيرا وانعكاسا للواقع الاجتماعي والثقافي ووليد الواقع الجغرافي والسياسي وللمجتمع البيئي العماني.
وطول الساحل العماني على البحر والخليج جعل منها موقعا استراتيجيا يطمع فيه كل المستعمرين وعلى رأسهم البرتغال الذين اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح ونتيجة للاعتداءات المستمرة والاطماع جاءت القلاع والحصون نتيجة ملزمة للدفاع عن أهل عمان وإيجاد الأمن وإرغام المعتدين على الفرار والهروب أمام التحصينات والمؤسسات العسكرية العمانية.
كان المجتمع العماني يتمتع بقدر كبير من الوعي والتحضر وجمع ما يلزم لبناء وتشييد قلاعه وحصونه، وتعرف على العمليات الخاصة بتصميم القلاع وتنفيذها بطرق إبداعية تجعله حصنا منيعا واستخدم مواد بناء بيئية وحجارة، وانتشرت عمليات التحجير وتوافر من اهالي البلاد المهندسون والبناؤون والنجارون والجصاصون والحجارون، وقاموا بتوفير الالتزامات كافة لاتمام حضارتهم النابعة من بيئتهم الخالصة.
لقد كان الاساس لدى أهل عمان في تشييد الحصون والقلاع أمرا بالغ الأهمية، ولم ينتج تلك القصور والحصون بلا داع وإنما قامت لضرورة وبدعم موروث حضاري ساهمت فيه كل الظروف الاجتماعية والسياسية والجغرافية لكي يوجد ويعكس لنا الفكر العماني، وتتمتع القصور والقلاع والحصون العمانية بوحدة في التصميم الهندسي و كذلك معظم الواجهات من حيث التصميم الشكلي. فمعظم القلاع كان يوجد فيها الأبراج وبعض القلاع كان تصميمها على شكل دائري مثل قلعة نزوى التي تعتبر من أشهر القلاع المستديرة وبعض القلاع كان تصميمها على شكل مربع أو مستطيل أحيانا ووزعت الأبراج على أركانها بشكل يخدم الجانب العسكري في تطور مستمر وسنتعرض له فيما بعد من حيث التكوين البنائي للقلاع والحصون.
وتحمل القيمة المعمارية للقلاع والحصون والقصور في عمان قيمة عالية من حيث كونها تراثا إسلاميا ويعتبر بمثابة المرآة الحقيقية للحوادث الاجتماعية والسياسية والمواقف الشخصية وانعكاس للفكر العماني والتي تمكننا من قراءة التاريخ في استيعاب اسلوب البناء والمواد المستعملة والطرز والاتجاهات التصميمية والفكرية وحتى الأدبية والفنية، فالعمارة في جملتها هي حصيلة ونتاج الفكر وتشمل الفنون وتعتبر العمارة أم الفنون وحاضنة لها كما أنها بوتقة تنصهر فيها كل الطاقات والأفكار والإمكانات والظروف بكل شموليتها الحياتية.
كما تعكس العمارة العمانية في القلاع والحصون والقصور تلك القيم الثقافية للمجتمع المسلم في عمان والتي تعكس الطابع الشخصي المميز لها بشكل متزن لطبيعة الحياة وتهيئة الظروف الطبيعية والجغرافية، التي انعكست على حياة الإنسان العماني وجعلته متزنا داخليا وخارجيا وعكست لنا فكرة الأجيال المتعاقبة في تلك البقعة من الارض في فترة ما قبل الاسلام وحتى عصور الاسلام والتي نقلت إلينا قيما تاريخية وثائقية وأثرية وقيما فنية ذات جماليات بصرية ورمزية تحتوي على مضامين الفكر والعقيدة وكل هذا نقل إلينا واستمر حتى وقتنا الحاضر وقدمت لنا العناصر الإبداعية في عمارة القصور والحصون والقلاع العمانية القديمة. لقد دفعت الطبيعة الجغرافية والظروف السياسية والحياة الدينية بعمان لإتباع الاساليب التحصينية في عمارة القصور والحصون والقلاع فنرى القصور وكأنها حصون وكذلك التخطيط الهيكلي للقلاع نراها وقد اكتسبت قيمة جمالية كأنها ستصبح عمارة للسكن وتدهشنا تلك الاحتياطات التي تم اتخاذها ومراعاتها في بناء تلك القصور والحصون وهذا يدلنا على نمو الفكر العماني وبراعته من الناحية التصميمية والتقنية لامتلاك مهارات مكنته من الوصول إلى تلك الحلول المعمارية التي استطاعت أن تلبي الاحتياجات العسكرية والاجتماعية والتعليمية.
ولبحث المصمم المعماري العماني القديم دائما عن التنويع والتطوير جاءت معظم القصور والقلاع والحصون مختلفة بعض الشيء، من حيث الشكل الهيكلي لها وتعددت أشكال تلك القصور والحصون والقلاع.
والباحث في معظم مناطق عمان يجد أن هناك اشكالا مختلفة تداولها المصمم المعماري العماني في وضع الهيكلة للحصن أو القصر منها المستطيل ذلك الشكل الهندسي الذي يناسب قطعة أرض مستوية ومساحة كبيرة إلى حد ما كما نشاهد ذلك في قلاع بركة الموز والراوية والعراقي وغيرها. ونشاهد الشكل المربع في قريات ورأس الحد وبدبد وغيرها ومنها الدائري واشهرها قلعة نزوى ومنها البيضاوي مثل واجهة البرج الرئيسي في قعلة الرستاق، ومنها الثلاثي الشكل الذي يظهر في حصن السيب.
إن ما يهمنا هو القيمة الجمالية في عمارة القصور والحصون العمانية القديمة، وإن كانت بعض القلاع والأبنية التحصينية تلبي الغرض الذي انشئت من أجله مثل القلاع ذات الوظائف الحربية كالجلالي ونزوى والميراني ومطرح وغيرها قد تعاضدت وظيفتها مع شكلها فلم تظهر فيها اعمال الزخرفة ولو كان ظهر ذلك لتعارضت مع ما جاءت من أجله وما هي عليه من صرامة وهيبة وجلال، ولكانت أيضا تلك الزخارف متعارضة مع تشكيلها الكتلي واتساق واجهاتها وجاء التخطيط مناسبا للوظيفة المخصصة لها.
حتى وإن خلت بعض القلاع والحصون من الزخرفة ولكن البساطة ووحدة البناء والفتحات البينية تلقي في قلوب الاعداء الرهبة من السكون الذي يحيط بالمساحات وتغلب المساحات الفارغة المرتفعة التي تشعر الاعداء بالقلق والرهبة فقد كان للبساطة مغزى تعبيري مؤثر من نفوس الاعداء.
لقد كان عمارة والمساجد العمانية القديمة تحفا معمارية أيدت بداخلنا تأكيد براعة الإنسان العماني وإخلاصه عندما عكس لنا ثقافته والتي قرأناها ورأيناها على الجدران والأسقف والأفنية والأبراج وغيرها الكثير الدال على الفكر العماني ودقة الفن العربي الإسلامي الذي أسهم في تأكيد الهوية العربية الإسلامية بشكل شخصي مميز له شخصيته الخاصة به وبانتمائه العقائدي الذي يجعل كل راءٍ لفنونه يقدر ذلك الإنسان ويتذوق فنه الراقي ويرتقي بالبعد الروحي لهذا الفن من عمارة القصور العمانية القديمة التي يمكن أن تصبح مصدرا ملهما للنصب التذكارية التي تشهد بجماليات العمارة العمانية في شتى المجالات والفنون
العدد 49 - الخميس 24 أكتوبر 2002م الموافق 17 شعبان 1423هـ
.......
أحسنت و بارك الله فيك