كان قصرُ الملائكة قابعًا وحدَه في إحدى جزر الهند المستحيلة. وكان ملاذًا لكل الأرواح الحائرة. ركبتُ البحرَ ووصلت القصرَ بعد عام، ولمّا وصلت وسألت حارس البوابة: أريد أن أحيا هنا، قال لي الحارس: اذهبْ لبحيرة الراهب وسط الجزيرة.
ولمّا رحت البحيرة ونظرت لصفحتها رأيتُ صورتي، فقالت لي صورتي: طالما تراني لن تَطأ عتباتِ القصر. حزنتُ وبكيت. عدت إلى القصرِ، قرعت البابَ فلم يجبني أحد، فألقيت رأسي على عتبة العجز. خرجَ لي حارس البوابة وقال اذهبْ ثانية، غدوتُ إلى البحيرة من جديد، ونظرت لصفحتها فلم أرَ صورتي. فرِحتُ. هممت بالانصراف، فاختفت قدماي، وشعرت ببساط شفاف يطير بي كالريشة إلى القصر، ثم أنزلني هناك، في الأعلى، عند قبة القصرِ الفيروزية اللامعة، نبتت قدماي من جديد، تطلعتُ للقبةِ الفيروزية، فازددتُ حَيرةً، وسألت: أهذا كل شئ؟ فنودِيتُ مِن قريب: هذا آخر مقام، متى ترضى؟ فتوهمتُ أنني رضيت. ثم نُـودِيت من جديد: لِمَ رضيتَ؟ أجبت: شَعرتُ بحبل الوصال يجذبني، فنودِيتُ أخيرًا: لا نَقطَعه ولو قَطعتَه.
ولأنني ابن حال، كان دوام رضاي من المحال، فبقيتُ في القصرِ قرابةَ عام، ثم أردت الخروجَ والعودة من جديد إلى حيث جئت. وأنا خارجٌ سألَني حارس البوابة: أمَلَلتَ السكن أم المَسكون؟ فلم أعرفْ إجابة. سِرْتُ مسافة عامٍ آخر، حتى بلغت داري، نمتُ على فراشي وتنعمتُ بأنثَاي، لكن شيئي كان يؤرقني.
غلَبَني الخجل، فبقيت سَنَةً ساهرًا أفكر ماذا أقول لحارسِ البوابة إنْ أنا عدتُ، هل يَقبَلني أم يردّني؟ وبماذا أدخل عليه؟ قدمتُ عجزي في المرة الأولى ودخلت به، ثم خرجتُ، فماذا أقدّم في الثانية؟ نمتُ، وحَـلُمتُ أنَّ القصرَ قد فارقَ جزرَ الهند وطارَ حتى وصلَ فراشي، أطلّ القصرُ من النافذة برفق كرفق أمي خشيةَ ألا يزعجني، ثمَّ تبعه سربٌ مِن الملائكةُ. انتظرني القصرُ حتى استوتْ روحي ونادى: ألا إنَّ حَبل الوصال لا ينقطعُ، علمنا أنك لا تملك سوى الشوق إلى الوصال، والأنسِ بنا. سألتُ القصرَ: وبماذا أحفَظ الجميلَ وأصون العهد؟ قالَ: بالحزن، ثم بالصمت. فحزنتُ ثمَّ صَـمـتُّ حتى نَسيتُ أصواتَ الحروفِ وأشكالَها، فـجُـزت عتبة القصرِ ودخلتُ مِن جديد.