كرست الجلسة السادسة لتقديم تجارب أحزاب، وحركات يسارية عربية في بلدان عربية منتقاة، ومقاربة هذه التجارب وتشخيص خصوصية كل بلد وكل تنظيم كما يلي: قدم الباحث فيليبس ويندلر ورقة بعنوان «تشي جيفارا في الشرق الأوسط، خالد أحمد زكي والنضال الثوري في أهوار العراق»، وقد عرض فيها لتجربة خالد زكي في الكفاح المسلح ومقاربتها مع تجربة تشي جيفارا، ومدى تأثر خالد زكي بتشي جيفارا، خالد أحمد زكي شاب عراقي من الطبقة الوسطى، ومتعلم مثل جيفارا، درس في بريطانيا وتأثر بأجواء الستينيات المعادية للإمبريالية وخصوصاً ضد الحرب العدوانية الأميركية في فيتنام، ولهذا انضم متطوعاً إلى مؤسسة راسل المناهضة للحرب، وكان نشطاً في أوساط الطلبة العراقيين. وانتخب في إدارة «رابطة الطلبة العراقيين» ذات التوجه اليساري، وقد تبلورت أفكار خالد زكي تأثراً لجيفارا والثورات المشتعلة كما في فيتنام والثورة الكوبية، في إحداث قطيعة مع العقيدة التقليدية للحزب الشيوعي العراقي في تحالفه مع حزب البعث العربي الاشتراكي. وكما جيفارا فقد ترك بريطانيا حيث العيش المريح والآمن، وتوجه إلى العراق، ومن بغداد استطاع أن ينظم خلية ثورية من الشيوعيين الناقمين على خط الحزب الرسمي وغيرهم، ويحصل على السلاح وتتوجه المجموعة إلى الناصرية في الجنوب ومنها إلى أهوار العراق مسترشداً بنظرية جيفارا بالبؤرة الثورية، وتثوير الفلاحين ضد النظام المستبد، وكانت مراهنة خالد زكي أن الجيش العراقي المنشغل بالحرب على الأكراد، حينها لا يملك القوة الكافية للتصدي للمجموعة الثورية المسلحة، والتي من خلال معارك استنزاف ستوسع نفوذها وتحريرها لأهوار العراق، لتطوق لاحقاً المدن مثل البصرة والناصرية. وقد مثل انشقاق المجموعة مداه لما أضحى يعرف لاحقاً «الحزب الشيوعي العراقي - القيادة المركزية» حيث عزيز الحاج الأمين العام، الذي وقع في قبضة مخابرات حزب البعث، وانهار تماماً، وخرج على التلفزيون متنكراً لمبادئه وحزبه، وكوفئ بمنصب ممثل العراق في اليونسكو. لكن حسابات خالد زكي لم تكن دقيقة، فعلى إثر مهاجمة مخفر شرطة في الناصرية، جرت مطاردة المجموعة في أهوار العراق، حيث استخدم الجيش طائرات الهليكوبتر، وفي الاشتباك البطولي استشهد خالد زكي وعدد من رفاقه، فيما جرى أسر الباقين، وهكذا هزمت محاولة الثورة المسلحة بسرعة كما ينطفئ شهاب لامع سريعاً، لكن خالد زكي أضحى رمزاً وبطلاً لأجيال من العراقيين.
الورقة الثانية من قبل الباحث الفلسطيني ماهر الشريف بشأن الشيوعيين الفلسطينيين وإشكالية العلاقة ما بين الخاص والعام في النضال الفلسطيني، وفيها يعرض التحولات الفكرية والتنظيمية للشيوعيين الفلسطينيين في ضوء التطورات العاصفة للوطن الفلسطيني بدءاً بالاستيطان مروراً بالحروب والانتفاضات وأبرزها انتفاضة 1936 وحرب 48 - 1947 التي هزم فيها الفلسطينيون والجيوش العربية، وانتهت بتقسيم فلسطين، حيث استولى الصهاينة على 80 في المئة من فلسطين، فيما وقعت الضفة الغربية تحت الحكم الأردني، وغزة تحت الحكم المصري، وما جره ذلك من تشتت الشعب الفلسطيني بين اللجوء والاحتلال الإسرائيلي والوصاية العربية، وتشرذم الشيوعيين الفلسطينيين، وتبدل أولوياتهم ثم جاءت هزيمة 1967، لتضع ما تبقى من فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي مما خلق إشكالية أخرى لوضعية الفلسطينيين ما بين فلسطين 1948 وفلسطين 1967. ثم اندلاع الثورة الفلسطينية المسلحة وما فرضته من أولويات على الشيوعيين الفلسطينيين في الضفة والقطاع وعموم فلسطين والانشقاقات التي ولدتها بالتحاق كوادر ومناضلين شيوعيين بالمنظمات الفدائية.
وأخيراً اتفاقية أوسلو، ووضع الضفة الغربية وغزة تحت سلطة فلسطينية منقوصة السيادة، والتخلي عملياً عن الكفاح المسلح، والحق في كل فلسطين والقبول بمبدأ الدولتين، ولكن حتى هذا لم يحقق للفلسطينيين دولتهم على 20 في المئة من أراضي فلسطين. ومن خلال استعراض هذه التطورات يعالج الباحث ماهر الشريف الكيانات التنظيمية التي تشكلت والتحق بها الشيوعيون الفلسطينيون عصبة الشيوعيين الفلسطينيين، ثم الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والحزب الشيوعي الأردني، ثم الحزب الشيوعي الفلسطيني وأخيراً حزب الشعب الفلسطيني.
كما يطرح الباحث المواقف المربكة «للكومنترن» ومن بعده الحزب الشيوعي السوفياتي، واستطراداً الأحزاب الشيوعية السائرة في فلكه تجاه القضية الفلسطينية، وخصوصاً المراهنة على اليسار الإسرائيلي والاعتراف بدولة إسرائيل مما خلق إشكالات كبيرة للشيوعيين الفلسطينيين.
الورقة الثالثة للباحث نيكولاس دوبرلارد وموضوعها الحدود الايديولوجية، الكتيبة الطلابية لـ «فتح» ما بين ماركسية النموذج الآسيوي والإسلاموية. تعتبر تجربة الكتيبة الطلابية لفتح تجربة فريدة من حيث إنها عكست الحراك؛ بل الصراع الايديولوجي داخل «فتح»، والتجريبية في العمل الأممي والرومانسية الثورية. فقد تشكلت الكتيبة الطلابية من بين صفوف الطلبة الجامعيين الفلسطينيين وخصوصاً من الأردن ولبنان، ثم فتحت صفوفها لطلبة عرب وأجانب تركوا جامعاتهم ليلحقوا بصفوف الثورة، وهم يحلمون بتحرير فلسطين والانعتاق وكثير منهم يحملون فكراً رومانسياً عن الثورة، وبالطبع فقد انعكس الفكر اليساري التحرري السائد في الجامعات على الفكر السائد في الكتيبة الطلابية لـ «فتح»، والتي كانت تتبع قيادة أبوجهاد وهو المعروف باتجاهه الإسلامي ومن هنا تضارب الأفكار، لكن الفكر اليساري كان تعبيراً عن فكر العالم الثالث، وما يعتمل منه من ثورات في فيتنام والنماذج الثورية في الصين وفيتنام وكوبا أو ما عرف بالماركسية الآسيوية، وأطروحات مثل خط الجماهير والتناقض الأساسي والتناقضات الثانوية في التعاطي مع الواقع اللبناني والفلسطيني، ومع انتصار الثورة وما أحدثته من زلزال فكري وسياسي فقد تصاعد التأثير الإسلامي على الكتيبة الطلابية وجاء الاجتياح الإسرائيلي في 1982 وما ترتب عليه من شتات المقاتلين، وإخلاء الساحة اللبنانية من المقاومة، ليتسبب في انحسار الفكر الماركسي، لتنتهي الكتيبة الطلابية في 1984 وتحل محلها سرايا «الجهاد الإسلامي» وهي بذلك تعكس صيرورة حركة التحرير الوطني الفلسطيني في تحولاتها الفكرية تبعاً للتقلبات العنيفة التي مرت بها الثورة الفلسطينية والاقتلاع المتكرر، ومواءمة الفكر لمتطلبات التحالفات.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5243 - الجمعة 13 يناير 2017م الموافق 15 ربيع الثاني 1438هـ
اليسار القومي هو الخيار الأمثل لمواجهة الحركات الإسلاموية والنيوليبرالية