لم تصل عملية إحصاء ضحايا التفجير الإرهابي في جزيرة بالي الاندونيسية، بعد زهاء أسبوعين على وقوع الانفجار، إلى نهايتها بعد. ثمة مئتان أو أكثر من القتلى وعدد أكبر من ذلك من الجرحى، غالبيتهم من الاستراليين، والأميركيين، والبريطانيين والاندونيسيين.
ليس هناك من أعلن مسئوليته عن هذا العمل البشع، الذي يذكر بعملية الأقصر الدموية في 1996، ولكن بعض الدلائل قد تشير إلى الفاعل. هذا عمل موجه أصلا إلى موقع يوحد فيه سياح غربيون تنتمي غالبيتهم إلى ضفة معينة من البلدان، وهو عمل لا يأخذ في الاعتبار سقوط ضحايا مسلمين كذلك، تماما كما كان الأمر في الهجوم على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك قبل أكثر من عام بقليل.
ويأتي انفجار بالي بعد سلسلة من العمليات في باكستان واليمن والكويت استهدفت هي الأخرى أهدافا غربية معينة. الترحيب الذي أبدته بيانات القاعدة بالعمليات السابقة لانفجار بالي يدل على ان تلك العمليات نفذت من قبل عناصر تنتمي إلى منظمة «القاعدة» أو مجموعات إسلامية مسلحة ذات علاقة تحالفية معها.
وعلى رغم عدم اتضاح المسئول المباشر (أو المسئولين) عن انفجار بالي حتى الآن، فليس من المستبعد على الإطلاق ان يكون هو الآخر عملا قاعديا أو عملا قامت به عناصر اندونيسية محلية ذات علاقة ما بالقاعدة. نحن إذن أمام توكيد صارخ ودموي جديد على ان الخط الذي انتهج منذ تفجير السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي، مرورا بضربة سبتمبر/ أيلول، مازال مستمرا، وان الحرب المشتعلة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من ناحية وقوى الإسلام المسلح التي تقودها «القاعدة» أو التي تجد في «القاعدة» مرجعية لها هي حرب مفتوحة على المستقبل.
صيحات النصر الأميركية غير المبررة التي تصاعدت عشية انهيار حكومة «طالبان» في كابول أخذت تتلاشى حديثا، وبدأ المسئولون الأميركيون في إطلاق بيانات الإنذار من استمرار الارهاب والحاجة إلى التحلي بالصبر والحذر. لم يعد هناك من مسئول أميركي يتحدث، أو يتنبأ بانتصار قريب على القاعدة والارهاب. فالعدد الأكبر من زعماء «القاعدة» مازالوا أحرارا طلقين، وقد صعد مسلسل الهجمات على أهداف أميركية وغربية إلى وتيرة أعلى من تلك التي شهدها العالم قبل حوادث سبتمبر.
بل ان العالم يعيش ترقبا قلقا من ان لا يكون انفجار جزيرة بالي آخر الهجمات على أهداف مدنية. فهل هناك من مخرج من هذا المسلسل الدموي؟ هل هناك من وسيلة لوضع حد لهذا الارتباط البشع بين الإسلام والارهاب، الذي ينذر بمواجهة عالمية الأبعاد؟
تشير الكيفية التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع حملة العنف التي تواجهها إلى تقليد عميق الجذور في السياسة الأميركية: غرور القوة. بدلا من العمل الدبلوماسي الهادئ، المعزز بالجهد الأمني، قامت الولايات المتحدة بإعلان الحرب على أفغانستان، البلد الذي لم يكن قد خرج بعد من دمار عقود من الحرب وبدلا من تشجيع الأفغان على إقامة نظام تمثيلي حقيقي لقوى البلاد السياسية والعرقية بعد انهيار حكومة «طالبان»، قامت الولايات المتحدة بفرض نظام أحادي، عرقيا وسياسيا.
وبدلا من ان تلتزم المؤسسة العسكرية الأميركية في حربها في أفغانستان بالقوانين الدولية المتعارف عليها في الحروب، قامت باعتقال الأسرى المسلمين في أقفاص كالحيوانات وترفض حتى الآن تطبيق أعراف أسرى الحرب عليهم. لم تلق واشنطن بالا لحساسية المسلمين الباكستانيين تجاه الوجود العسكري الأجنبي في بلادهم، ولاسيما الوجود العسكري الأميركي، ولا للعلاقات العرقية والعقيدية الوثيقة التي تربط القبائل الباكستانية بالقبائل الباشتونية الأفغانية، وفرضت وجودها الأمني والعسكري في باكستان بالتهديد وابتزاز الحكام الباكستانيين. وفي حين يدرك العالم كله ان الوجود الأميركي في الخليج والسعودية كان أحد أبرز العوامل التي أدت إلى التحول الاستراتيجي في توجهات بن لادن و«القاعدة» نحو إعلان الحرب على الولايات المتحدة، فإن الإدارة مستمرة في تعزيز وجودها العسكري في السعودية والخليج، وذلك في استهتار بالغ بالأسباب التي أدت إلى انفجار العنف الموجه ضد الولايات المتحدة وفي استهتار لا يقل بالرأي العام والسعودي والعربي - الإسلامي الرافض للوجود العسكري الأجنبي.
فوق ذلك كله، تستمر إدارة بوش في التزام موقفها المنحاز، رصارخ الانحياز، للدولة العبرية، وفي دعم سياسات رئيس وزراء إسرائيلي ذي سجل دموي معروف كشارون. وقد كان مدهشا، ان يستقبل بوش حليفه شارون في البيت الأبيض يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري وان يصفه بالصديق والزعيم الإنساني بينما الدبابات الإسرائيلية تقصف الأحياء السكنية في مدينة رفح في جنوب قطاع غزة وتوقع مجزرة جديدة في صفوف المدنيين الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك، تقف الولايات المتحدة (إلى جانب الحليف البريطاني الوحيد) في مواجهة الرأي العام العالمي كله تقريبا في تصميمها على شن الحرب ضد العراق وإطاحة نظامه واستبدال نظام حليف لواشنطن به. وتشير الجهود الأميركية نحو الاستعداد للحرب في موازاة جهود أخرى لتعطيل عمل فرق التفتيش الدولية، التي من الممكن ان يؤدي استئنافها عملها إلى تجنيب المنطقة حربا دموية أخرى. ضمن مواجهتها للارهاب، قامت الولايات المتحدة بتقويض عمل العشرات من مؤسسات العمل الخيري الإسلامي، والتعرض لعشرات أخرى من المؤسسات الإسلامية الأميركية الثقافية والأكاديمية وتشويه سمعة العاملين في هذه المؤسسات. كما سنت واشنطن قوانين عنصرية تقوم على الشك في المسلمين، كل المسلمين، والتمييز ضدهم في المطارات والجامعات ووسائل النقل وحقول العمل العام. في حربها ضد الارهاب، تقوم الولايات المتحدة بمحاربة كل الإسلام وتعزز من حال الصدام بينها وبين شعوب العالم الإسلامي قاطبة.
هذا النهج الأميركي لن يصل مطلقا إلى حل لمشكلة الارهاب المتصل بالقوى الإسلامية المسلحة. نهج يقوم على توظيف أهوج ومتغطرس للقوة في العالم وتحويل الولايات المتحدة إلى قلعة أمنية، ونشر الجيش الأميركي كبوليس دولي في أنحاء المعمورة، وإطلاق ثقافة عنصرية تمييزية ضد الإسلام والمسلمين، لن يؤدي إلا إلى استمرار هذه المواجهة. قد تنجح الجهود الأميركية في افشال عمل ارهابي هنا أو هناك، في القبض على أحد النشطين أو الكوادر التابعة إلى القاعدة في هذه البلد أو ذاك، قد تنجح في اشعال مزيد من النيران في العلاقة بين الأنظمة الحاكمة في دول كالفلبين واندونيسيا والكويت واليمن وباكستان والسعودية والقوى الإسلامية داخل هذه الدول، وقد يستتبع ذلك تعميق حال الفصام بين الحكومات وشعوبها، ولكنها لن تنجح مطلقا في احراز النصر القاطع والنهائي ضد القوى الإسلامية المسلحة. «القاعدة» والمجموعات الإسلامية المسلحة المرتبطة بها، هي قوى صغيرة ولكنها واسعة الانتشار، قوى ذات توجه محدد وأساليب محددة ولكنها لا ترتبط بنظام يمكن الضغط عليه أو التفاهم معه كما هو الحال في العلاقة بين الاتحاد السوفياتي ومجموعات اليسار الشيوعي المسلحة، وهي فوق ذلك قوى تتغذى من نهج غرور القوة وسياسات العدوان الأميركي في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. هذه حال لا يمكن محاصرتها ومواجهتها فعلا إلا بإعادة النظر في مجمل العلاقة بين الولايات المتحدة والشعوب الإسلامية.
ليس هناك من دليل واحد على ان الشعوب الإسلامية تنظر بإعجاب خاص إلى «القاعدة» واستراتيجية عملها. على رغم الأوهام والدعاية التي تروجها الأوساط الإسرائيلية وأوساط حلفائها على جانبي الأطلسي، فإن المسلمين لا يرون ان «القاعدة» وقياداتها لهم الحق في النطق باسم الإسلام والمسلمين. الأرجح ان عموم المسلمين لا يرون فيما يصيب الأميركيين جراء هجمات «القاعدة» وحلفائها مصدر اكتراث، ويشعرون بدهشة حقيقية وهم يشهدون حجم المجازر والدماء في فلسطين وغيرها من مواقع الصدام والتوتر في العالم الإسلامي التي لا تكترث بها واشنطن بينما إصابات أميركية وغربية أقل بذلك بكثير تقيم الدنيا ولا تقعدها. ليس ثمة من دعم عربي أو إسلامي ملموس للارهاب الذي تمارسه القوى الإسلامية المسلحة، ويدرك المسلمون في عمق ضميرهم ان هذا سلوك خاطئ لمواجهة الهيمنة والامبريالية الأميركية، وان هذا سلوك لا تقره قيم الدين أو الإنسانية. ولكن النهج الأميركي في مواجهة الارهاب الذي يجد في شارون زعيما إنسانيا وفي عبدالرشيد دوستم حليفا، وفي معتقل غوانتنامو سلوكا حضاريا، وفي محاصرة الإسلام ومؤسساته وشعوبه وفي التحضري للحرب ضد العراق سياسة مشروعة، يجل المسلمين عموما على غير استعداد لمواجهة قوى الإسلام المسلح أو القيام بتحرك إيجابي لعزل هذه القوى وتجريد خطابها من الشرعية. من دون مثل هذا التحرك الشعبي الإسلامي الإيجابي سيكون الفشل حليف الحرب الأميركية ضد الارهاب.
ليس العنف المستند إلى أسس ايديولوجية، أو حتى ايديولوجية دينية، هو بالظاهرة الجديدة في العالم الحديث. ولكن تجربة القرن العشرين الطويلة مع هذا الطراز من العنف تشير بوضوح إلى ان هزيمته غير ممكنة، ان لم تكن مستحيلة أصلا، من دون عزله عن المحيط الذي يستمد منه الشرعية، عن المناخات السياسية المهيئة لاستقباله، وعن منابع الغضب التي تغذيه. إن كان للولايات المتحدة، وللعالم، ان يتجنبا مخاطر انتشار العنف واستمراره فعلى واشنطن ان تبدأ إعادة نظر تاريخية في علاقاتها مع العرب والمسلمين. إعادة النظر هذه هي الشرط الأولي لبناء تصور عربي - إسلامي جديد للولايات المتحدة وسياساتها. على القوات الأميركية التي جاءت إلى المنطقة لحماية المصالح الأميركية (كما يقال) فباتت تحتاج هي ذاتها إلى الحماية ان ترحل، وعلى الإدارة الأميركية التوقف عن التدخل في شئون العرب والمسلمين الداخلية. مستقبل المنطقة هو شأن شعوبها، والتوصل إلى اتفاق لتأمين الحاجات الأمريكية الاقتصادية والنفطية، بل حتى الاستراتيجية، ليس أمرا شائكا.
بإمكان واشنطن ان تبني علاقات طبيعية مع دول العالم الإسلامي وشعوبه كتلك التي تقيمها مع أوروبا مثلا، علاقات نزيهة، خالية من الابتزاز الامبريالي والتهديد والضغوط وتغيير الأنظمة بقوة الجيوش الأميركية. ولكن إعادة بناء مثل هذه العلاقات الأميركية بالعالم الإسلامي مشروطة بتحرير الأمن القومي الأميركي من ارتباطاته الإسرائيلية الثقيلة الوطأة والفاقعة اللون. في نظر الشعوب العربية والإسلامية، لم يعد الأمن القومي الأميركي أكثر من صورة تختفي وراءها بشاعة المشروع الصهيوني
العدد 48 - الأربعاء 23 أكتوبر 2002م الموافق 16 شعبان 1423هـ