مساء الأحد وَضَعَ التلفزيون الإيراني شارة سوداء في أقصى صورة البث، معلناً وفاة رئيس مَجْمَع تشخيص مصلحة النظام علي أكبر هاشمي رفسنجاني (83 عاماً). كان رفسنجاني في مكتبه عندما باغتته نوبة قلبية حادة، نُقِلَ على إثرها إلى المستشفى عند الساعة السادسة مساءً، وأدخِلَ العناية المركزة فوراً. إلاّ أن محاولات الأطباء لإنقاذه لم تفلح، فوافته المنية عند الساعة السابعة والنصف مساءً بتوقيت طهران. هكذا وصف نائب وزير الصحة الإيراني مشهد وظروف الوفاة.
«الوسط» تفتح نافذة على حياة هاشمي رفسنجاني. نافذة لا تطل على نشاطاته خلال عقدَيْ الثمانينات والتسعينات، بل بقراءة مسيرته خلال العقد الأول من هذه الألفية، والتطورات المختلفة التي دفعته للانتقال من موقع إلى آخر: من موقع الرجل الأهم إلى المهم إلى الأقل أهمية، ثم صعوداً مرة أخرى بعد أن تحوّل من محارِبٍ في الثورة إلى مَحرُوبٍ مسلوب في الدولة.
ما بين ولادته في الـ 25 من أغسطس 1934 بقرية بهرمان في مدينة رفسنجان «الكرمانية»، إلى العام 1948 عندما حلَّ في مدينة قم طالباً في العلوم الدينية، إلى العام 1961 عندما بدأ نشاطه السياسي ضد حكم الشاه، وقضائه 4 سنوات و5 أشهر في السجن، إلى توليه رئاسة البرلمان الإيراني عقب الثورة (بين عامَيْ 1980 و1989)، إلى قيامه بأعمال قائد القوات المسلحة، فرئاسة الجمهورية (بين عامَيْ 1989 و1997)، ثم مَجْمَع تشخيص مصلحة النظام مدة 27 عاماً، وعضوية مجلس خبراء القيادة لـ 34 عاماً، من كل ذلك يرسم الرجل تاريخه وجزءًا مهماً من تاريخ إيران الحديث.
لذلك لا يختلف أحد على أن رفسنجاني كان من عِظام الرقبة في النظام السياسي الإيراني، وفي مسطرته الحزبية والدينية والثقافية، إلاّ أن من المهم إدراك أن موقعه المتقدِّم ذاك لم يمنحه القبول المتماسك، بل صدَّره كرجل سياسة مُختلِف ومُختلَف عليه في ذات الأوان. وهي لحظة بدأت منذ العام 1986 عندما انشقت رابطة علماء الدِّين المناضلين لتَلِدَ وعاءً حزبياً آخر عُرِفَ بمجمّع علماء الدين المناضلين، ولم تنته إلى آخر يوم في حياته. فهو وفي الوقت الذي استظلّ به الجميع، دخل معه كثيرون في خلافات جعلته هدفاً للمناكفة بل والرغبة في محقه وإزاحته.
خلال المرحلة التي تلت مجيء الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي إلى السلطة ومعه التيار الإصلاحي بأحزابه الثمانية عشر وخصوصاً في الحقبة الأولى لرئاسته (1997 - 2001) كان رفسنجاني ما يزال في عنق التيار المحافظ التقليدي، لكنه كان مقبولاً من تيارات إصلاحية مهمّة كـ تيار البناء الصناعي، إلاّ أنه واجه خصومة كبيرة من أقصى يمين الإصلاحيين المتمثل آنذاك في جبهة المشاركة ومجاهدي الثورة الإسلامية.
كان رفسنجاني داعماً لحكومة خاتمي التي كان يتنمّر عليها المحافظون في البرلمان ومواقع أخرى. وقد انتصر (كونه رئيساً لمجمع التشخيص) لأكثر من 70 في المئة من مشاريع الاقتراحات التي قدّمها النواب الإصلاحيون خلال تلك الفترة عندما كان مجلس صيانة الدستور يرفضها.
وعندما دبّ الخلاف على قوانين حرية التعبير بين وزير الثقافة حينها عطاء الله مهاجراني وبين رئيس السلطة القضائية آنذاك آية الله محمد يزدي، وإصدار القضاء حكمه بحبس عمدة طهران غلام حسين كرباستشي ثم عبدالله نوري وزير الداخلية الأسبق، كان رفسنجاني داعماً للإصلاحيين، إلاّ أن تلك المساندة لم تُغيِّر من عداء متشدديهم له. كان هؤلاء الإصلاحيون قد ساهموا في خسارة رفسنجاني وبإذلاله في انتخابات البرلمان السادس إلى الحدّ الذي جعلوه في المركز 27 في دائرة طهران.
ربما كان العقد الأول من الألفية قد شكَّل التجلِّي الأبرز في تحوُّل الخلاف على رفسنجاني من الجبهة الإصلاحية إلى الجبهة المحافظة، وتحديداً في العام 2005. خلال تلك الفترة قرَّر رفسنجاني العودة إلى رئاسة الجمهورية، الذي كان سيصبح شاغراً بإكمال محمد خاتمي دورته الثانية.
كان منصب رئيس الجمهورية في إيران قد احتكره رجال دين بعد اغتيال الرئيس محمد علي رجائي في أغسطس من العام 1981 وحتى يونيو من العام 2005. وكان الحديث حينها أنه يجب أن يأتي شخص من خارج المؤسسة الدينية. لذلك كان رفسنجاني يُنصَح بأن يَعدِل عن قرار ترشّحه.
وقد نشرت وسائل الإعلام الإيرانية حينها نصاً كتبه علي مطهّري نجل أحد مُنظِّري الثورة مرتضى مُطهري (اغتيل في 01 مايو 1979) يدعوه فيها إلى عدم ترشيح نفسه للانتخابات في تلك الفترة. ومما جاء في الرسالة: «إن نظام الجمهورية الإسلامية لا يعني حكومة طبقة رجال علماء الدين، وحتى أنه من الأفضل أن لا يتصدى علماء الدين للمناصب التنفيذية الحكومية إلاّ اضطرارياً، وقطعاً إن مثل هذا الاضطرار معدوم حالياً مع وجود شخصيات غير عُلَمائِية صالحة لرئاسة الجمهورية». لكن كانت هناك رسالة أخرى داعمة للرجل استشرفت ما سيحدث في إيران لو لم يترشّح هاشمي ويفوز.
الرسالة كتبها مهدي خزعلي نجل عضو مجلس خبراء القيادة والعضو السابق لمجلس صيانة الدستور آية الله أبوالقاسم خزعلي (1925 – 2015) دعاه فيها إلى ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، ومما جاء في الرسالة: «إن انتخاب رئيس للجمهورية ذي ميول يسارية (بالمفهوم السياسي الإسلامي الإيراني وليس العقائدي) سيحمل وراءه فترة من الصراعات عديمة الجدوى مع السلطة التشريعية وربما مع سماحة القائد، وإن انتخاب رئيس للجمهورية ذي ميول يمينية سيتسبب في إقصاء شريحة واسعة من عائلة الثورة والمؤمنين بالنظام من المنتسبين لليسار، وإن إجراء تغييرات جذرية في هيكلة الجهاز التنفيذي سيلحق أضراراً اقتصادية وسيقصي جانباً من الخبرات الإدارية بالبلاد». وكانت الرسالة تعني أن السلطة يجب أن تبقى في يدٍ بعيدة عن التيارات المتهارشَة، بهدف إكمال برنامج حكومتَيْ الإصلاح الأولى والثانية اللتين قادهما محمد خاتمي (1997 – 2005).
خاض هاشمي رفسنجاني انتخابات الرئاسة التاسعة في العام 2005 لكن المفاجأة كانت فوز شخصية محافظة ومتشددة ومغمورة وهي محمود أحمدي نجاد بـ 17 مليوناً و248 ألفاً و782 صوتاً، مقابل 10 ملايين و46 ألفاً و701 صوت حصل عليها رفسنجاني!
كانت تلك الخسارة مُدوّية. أحد مستشاري حملة هاشمي وجّه الاتهام إلى آلة التشويه المُنظمة التي شُنّت على الرجل وتلميع أحمدي نجاد الذي صُوِّر وكأنه مُنقِذ آتٍ لتخليص إيران من الفاسدين. لقد وصل التشويه إلى الحدّ الذي قال فيه أستاذ جامعي: «كما فاز محمد خاتمي في 1997 بنسبة 70 في المئة لأن منافسه كان ناطق نوري، فإن أحمدي نجاد فاز في الانتخابات لأن خصمه هو رفسنجاني». وحتى عندما أراد الإصلاحيون المتشددون نجدة الموقف بعد خسارة مصطفى مُعين ومهدي كروبي (اللذين نافسا رفسنجاني في تلك الانتخابات) فإنهم وصلوا في اللحظة الخطأ.
كان المحافظون المتشددون وفي طليعتهم تيار أحمدي نجاد قد وظفوا كل إمكاناتهم لتشويه رفسنجاني، واتهامه بالفساد، وباتت تلك الاتهامات ككرة الثلج تتضخم كلما تدحرجت. كانت ردّة فعل رفسنجاني على ذلك لا تذكر، محيلاً سائليه إلى السلطة القضائية التي قال بأنها تعلم ما يملك هو وأسرته. كان يقول: «عندما مُنعت من ارتقاء المنبر في عهد الشاه، اتجهت للعمل كاسباً في مجال الأراضي والبناء، فازداد دخلي وتحسّن وضعي، وقد اشتريت حينها أرضاً خارج مدينة قم، وبعد شقّ الطرق ارتفع سعرها، فقمت ببيع قسم منها وإعمار القسم الآخر، وعندما دخلت السجن لعدة سنوات جرى إنفاق مقدار منها، ولما أُطلق سراحي وهبتُ قسماً منها إلى الطلبة المعوزين، وأهديت 5 قطع منها لأولادي الذين أخذوا ببيعها شيئاً فشيئاً وجعلوها نفقة لمعيشتهم أو لبناء بيوت لهم، ويوم انتصرت الثورة كنت أعيش في دار تقع في دزاشيب، والآن أعيش في دار مستأجرة أصغر بكثير من سابقتها، واستناداً إلى الدستور يتعين على رئيس الجمهورية عندما تنتهي ولايته أن يُقدم للسلطة القضائية قائمة بممتلكاته وممتلكات أبنائه وزوجته، وأنا قدمتها لآية الله الشيخ محمد اليزدي فوجد أنها قلّت، وقد صرّح بذلك».
لكن ذلك الحديث كان بمثابة الصوت الضائع في جلبة أكبر تتراقص فيها الطبول، فقد كانت الحملة ضده أكبر وأكثر مما يتصوّره أحد. وربما شاركت فيها قوى خفية في النظام، فهُشّم اسم الرجل وبدأت تتشكّل لوبيات مناهضة له داخل تيار اليمين، دَعَمَهَا رجال دين نافذون كمصباح يزدي.
بعد 4 سنوات على هذه المعركة الشرسة جاءت انتخابات العام 2009 التي أعاد نجاد ترشحه فيها إلى جانب رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي ومهدي كروبي. في هذه الانتخابات تبلور تحالف موضوعي بين رفسنجاني وهاتين الشخصيتين، وخصوصاً بعد المناظرات التلفزيونية التي جَرَت، والتي كالَ فيها نجاد علانية اتهامات خطيرة لـ موسوي وكروبي، وأداء الأخير في منظمة المستضعفين، ثم تهجّمه الشخصي وبالاسم على رفسنجاني وعائلته بشكل أرعن.
وربما يتذكر الجميع المظاهرات التي سيّرها أنصار نجاد وسط طهران بُعيد إعلان فوز الأخير في الانتخابات العاشرة. وكانت الجماهير وبفعل التحريض ضد رفسنجاني وعائلته، تهتف بـ شعار «الموت لرفسنجاني». كما احتشد خصومه في صلاة الجمعة بمصلى طهران المركزي، وأخذوا يقاطعونه ويُرددون شعارات معادية له حين كان يُلقي خطبة صلاة الجمعة.
كان المرشد في تلك الفترة قد تلقى رسالة من رفسنجاني يطلب فيها منه التدخل لحمايته من حملات التشويه المنظمة التي تتدفق من زوايا متعددة من داخل النظام. لذلك، وخلال مراسم تكريم قتلى محلّة كلوان، تحدث أحد أقطاب المحافظين (حداد عادل) ناقلاً وصيّة من المرشد تقول «يجب أن تُحفظ حرمة هاشمي (رفسنجاني) فهو طرفي الآخر المرتبط بي». لكن الأمور لم تتصوّب وبقيت الأبواق في الهجوم على رفسنجاني مستمرة، وسط جموح النجاديَّة التي كانت في أوج قوتها.
كان رد رفسنجاني على ذلك هو الصَّمت. لكنه صمت جوهره هو هذا الاستفهام: ماذا فعل النظام بنفسه حين سمح لشخص كأحمدي نجاد كي يكون رئيساً متأمرا؟! وكان ذلك الاستفهام في محله. فقد تحوّل نجاد المنتفخ بالشعارات إلى سياسي متمرّد حتى على المرشد ذاته، فلم يَعُد يلتزم بحضور جلسات مجمع التشخيص؛ لأن رفسنجاني يرأسه. ثم جاءت قضية تعيين اسفنديار رحيم مشائي ليظهر تمرّده أكثر. أما موقفه من إرجاع المرشد لوزير الاستخبارات حيدر مصلحي بعد أن أقاله نجاد، فقد كانت الأبلغ، وهي أن النجاديّة وتيار التعميريين هم الخصم الحقيقي للنظام، وليس الرفسنجانية التي سلّمت للبيروقراطية القائمة.
لقد أدرك المعنيون في إيران ذلك بعد طغيان «الطفولية السياسية». وقد أعيدَ الاعتبار لـ رفسنجاني بعد العام 2013 لكنه اعتبار جاء متأخراً. وكان يمكن لشخص معتدل أن يجعل فضاء إيران الداخلي والخارجي أفضل منذ العام 2005، لكن ضاعت 8 أعوام من عمر إيران في الخلافات الداخلية والصِّدام مع الخارج بفريق سياسي لا يجيد سوى الرَّدح والتهييج. واليوم وبعد وفاة رفسنجاني وغيابه عن المشهد الإيراني تتعمّق خسارة النظام، وتحديداً المعتدلين فيه الذين بات قلبهم معلقا بطرف خيط.
العدد 5240 - الثلثاء 10 يناير 2017م الموافق 12 ربيع الثاني 1438هـ