على رغم عدم وجود أيِّ دليل تاريخيٍّ من وثائق أو دراسات مُحقَّقة أو روايات متتالية، تؤكد أن أهالي البحرين أقاموا مجالس العزاء الحسينية في بيوتهم ومجالسهم الخاصة، أو في بساتينهم ومساجدهم منذ سمعوا باستشهاد الإمام الحسين (ع) بعد واقعة كربلاء في العام 61 للهجرة، إلا أنَّ الباحث والأكاديمي محمد حميد السلمان، لم يستبعد إقامة مجالس العزاء بالفعل في المناطق المُشار إليها.
آل عبدالحي والعصفور
وتحدث السلمان في محاضرة بعنوان: «لمحات من تاريخ الحسينيات... المنامة أنموذجًا»، مساء الإثنين (9 يناير/ كانون الثاني 2017) في مجلس المرحوم العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري في بني جمرة، عن مراحل تاريخ الحسينيات، لكنه أشار بوضوح إلى عدم تأكيد أقدمها، غير أنه ساق أنموذجين هما: حسينية آل عبدالحي بسنابس 1719 للميلاد، أو حسينية العلامة الشيخ حسين العصفور (1191 للهجرة 1771 للميلاد)، والتي كانت مع مدرسته الدينية في الموقع نفسه بالشاخورة، ويروى أنهما من أقدم حسينيات البحرين قاطبة، مع الإشارة إلى أن أقدم حسينية برزت العام 1805 في المنامة تحديدًا، وأن المواكب الحسينية قد بدأت في فترة حكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، (ما بين 1869 و1932)، أي بين أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 للميلاد.
ديوان «همايون السلطاني»
وتناول السلمان في محاضرته أربعة محاور: موقع المنامة من جزيرة البحرين، وأول حسينية موثقة بالمنامة، وبعض الحقيقة حول حسينية العجم، وشيء من الحقيقة عن حسينية بن رجب، وبدأ بالحديث مجيبًا على سؤال :»هل تأسست المنامة في القرن السادس عشر؟» بتقديم وثيقة عثمانية، تحمل رقم البحث 2097 - دفتر مهمة 69 - الصفحة 200، رقم الوثيقة 400، تاريخ الوثيقة شهر ذي الحجة العام 1001هـ - الموافق لشهري (أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول للعام 1593 للميلاد)، موضحًا أن دفاتر المهمة العثمانية، وعددها 263 دفتراً، فيها تسجيل لجميع الأحكام والأوامر الصادرة من ديوان «همايون السلطاني» والمتعلقة بمختلف شئون الدولة فيما بين أعوام 961/1323هـ أي (1553/1905م)، أما الوثيقة العثمانية الثانية، فقد دونت قبل ذلك، وقد أشارت إلى سكان البحرين خلال الغزوة التركية لها بتاريخ 966هـ - 1559م، لكنها لم تذكر اسم المنامة أيضًا، بل كانت تشير إلى قصف المدينة، أي قلعة البحرين وما حولها من قرى فقط، وهي محيط العمليات العسكرية التركية، وحتى تلك الوثيقة العثمانية بتاريخ (981هـ/1573م)، والتي أرسلت من الباب العالي العثماني إلى متولي ولاية الأحساء، وهي تشير إلى وجود أكثر من 300 قرية في البحرين آنذاك؛ لم يذكر فيها اسم المنامة لا كعاصمة ولا كموقع أو ميناء مهم.
في الوثائق الإنجليزية
أما في القرن التاسع عشر الميلادي، فقد ورد في الوثائق الإنجليزية، أن المنامة مدينة كبيرة تقع في المنطقة الشمالية الشرقية من الجزيرة، يسكنها نحو 8,000 مواطن، بُنِيَت على الساحل بطول ثلاثة أرباع الميل؛ ومعظم منازلها فقيرة؛ والمبنى الوحيد البارز هو منزل الشيخ الحاكم، وهو مبنى مرتفع وشبه محصن، يقع على السفح الغربي للمدينة، ويُرفع عليه علم؛ توجد مئذنة صغيرة على مقربة من جهته الشرقية، لا يمكن أن تراها إلا عندما تكون في المرسى الداخلي. والمنطقة الشمالية الشرقية للمدينة، التي تشكل أقصى يسارها، تسمى رأس الرمان، وعلى بعد نصف ميل من هذه المنطقة، توجد مجموعة من أشجار النخيل على أرض مرتفعة قليلاً وراء المدينة.
وفي البحث عن أصل الحسينيات ونشأتها بشكل عام، استخلص السلمان ما طرحه المرجع المرحوم السيد محمد حسين فضل الله ما نصه: «المأتم الحسيني أسسه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا يعقدونه في بيوتهم ويستدعون من يقرأ الأشعار التي تذكر مصيبة الحسين (عليه السلام) بطريقة عاطفية»، أما السيد عبدالحسين شرف الدين، ضمن كتابه، «المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره»، فقال إن الحسينيات لهي بحق جامعة إسلامية ورابطة أمامية باسم النبي وآله الأطهار، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله عزَّ وجل، والتمسك بثقلي رسول الله، وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت ما ليس في غيرها». وقال حسن مغنية: «جاء العهد البويهي في القرن الرابع الهجري فتجلى يوم عاشوراء كما ينبغي حزيناً في بغداد والعراق كله وخراسان وما وراء النهر، إذ أخذت تتَّشح البلاد بالسواد، وكذلك الحال في العهد الحمداني في حلب والموصل وما والاها، أمَّا في العهود الفاطميَّة فكانت المراسم الحسينية في عاشوراء تخضع لمراسم بغداد، وتقتصر على الأصول المبسطة التي تجرى الآن في جميع الأقطار الإسلامية والعربية، وخاصة في العراق، وإيران، والهند، وسورية، فتقام المآتم والمناحات وتعقد لتسكب العبرات وأصبحت إقامة الشعائر الحسينية مظهراً من مظاهر خدمة الحق وإعلان الحقيقة». «أدب المنابر- ص 192».
وقد اتسعت دائرة المآتم في عهد الإمامين الكاظم والرضا (ع)، وأخذ المأتم طابعًا رسميًّا بظهور حكومات شيعيَّة قويَّة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، لكن يبقى السؤال الذي طرحه المحاضر السلمان دون إجابة حاليّاً؟ متى بدأت فكرة إنشاء المأتم (الحسينيات) كمبنى مستقل، وإن كان مُلحقاً ببيت، أو مزرعة، أو مسجد في البحرين؟ هل كان ذلك خلال فترة حكم السلطة الهُرمزية على البحرين في القرنين 15-16؟ هل كان ذلك خلال فترة حكم القبائل العربية القاطنة في الساحل الشرقي من الخليج في المنطقة التي كانت تُعرف باسم «عربستان»؟ وهل فعلًا أقيمت المآتم، وليس مجرد النياحة في البيوت، في عهد دولة آل مذكور في النصف الثاني من القرن 18م؟.
ويستدرك السلمان ليقدم بيانات بالأرقام، «حيث بلغت حسينيات العاصمة المنامة وحدها طبقاً لآخر إحصائية ميدانية قمنا بها، 84 حسينية منها 46 للنساء فقط، أما الإحصائية التقريبية لحسينيات معظم المدن والقرى في البحرين، فحوالي 1500 بدون مواقع (العادات أو العوايد) في البيوت أو المجالس الأسبوعية، أو الشهرية، أو السنوية التي تفتح للتعزية عادة، وفي المحافظة الوسطي فقط، على سبيل المثال، بها حوالي 255 حسينية».
حسين بن رجب للنساء
ومما قدمه المحاضر من وثائق، هي وثيقة لمأتم القصاب جاء فيها: «يُعلم أنه قد أقرت واعترفت الحرة المصونة نصرة بنت المرحوم الحاج علي الحاج عبدالله القصاب وأختاها لأبويها زينب وخوار بنت المرحوم الحاج علي المذكور، وأسماء بنت المرحوم محمد بن رمضان بشهادة عارفين تمام المعرفة وهم حسن بن سالم وعبدالله بن حاج علي والسيد ماجد بن السيد حسين القاري وحسن بن ناصر الشاخوري وأحمد بن مهدي المعلم؛ بأن المأتم المعلوم بينهم الكائن بفريق المخارقة، أحد فرقان المنامة من أعمال البحرين الذي استحدثه ابوها الحاج علي القصاب المحادي لبيت سكناه بأنه وقف شرعي قد أوقفه ابوهن الحاج علي في مدة حياته على جهة القراءة فيه تعزية للامام الشهيد ابي عبدالله الحسين (ع) في عشر المحرم وغيرها... ومن الشهود على هذه الوثيقة الحاج حسن ويوسف بن عبدالله القصاب، وعبدالله وابراهيم بن محروس، وحسن بن ناصر الماحوزي، وغيرهم».
يُذكر أن مؤسس حسينية بن رجب للنساء قرب حسينية الرجال هو تاجر اللؤلؤ والوجيه المعروف عبدعلي بن رجب المتوفي العام 1940م.
حسينية بحرين... قطب الدين
وعن الحكاية المشهورة عن حسينية بحرين، أن مؤسسها الأول، هو ذلك الرجل الذي تميز في فريق الحطب في المنامة بعمامته البيضاء، والثوب والدقلة الخفيفة، والنعال الفارسي المعكوف أو محدب من الأمام، وامتاز بطول القامة والنحافة. فمن هو؟ وعرفه السلمان بأنه علي كاظم جعفر عبدالرحيم محمد رضا محمد ملك قيوم طالب قطب الدين علي فرومه منير.
وكما يذكر علي أكبر بوشهري، أن جده الأكبر طالب قطب الدين وعائلته كانوا من الصوفيين، وهذا يعني أن أسرة بوشهري ذات توجه ديني روحاني مميز من الأساس. ويُعتقد أن سبب تعلق علي بالحسينيات جاء من تربية والدته التي كانت لها علاقة بالمأتم الحسيني وهي في «بوشهر»، وقد وصل علي كاظم إلى البحرين العام 1860 صفر اليدين، لم يكن يملك إلا طموحاً تجاريّاً وعصاميةً في التنفيذ مع شيء من الخلق الطيب ومساعدة الغير، ولم يخطر بباله عندما حطت رحاله على أرض البحرين أنه سيُصبح ذات يوم من كبار تجار المنامة، العاصمة التجارية الحيوية آنذاك، وأنه سيساهم في أكبر تجمع ديني في المنامة.
عمل حمّالاً في «فرضة» المنامة مباشرة بعد وصوله إلى البحرين في مطلع مارس العام 1860، كما يذكر علي أكبر بوشهري. سكن بالإيجار جنوب فريق الفاضل في «عشة» قرب مدرسة الهداية الخليفية للبنات بالمنامة. وبعد ثماني سنوات فقط من العمل المجهد؛ تمكن رجلنا من شراء بيت له في فريق الحطب مكوّن من سعف النخيل.
ملتقى أصحاب الحل والعقد
وعودًا إلى الحديث عن عائلة بن رجب في البحرين في القرن السادس عشر، ذكر السلمان أنه ليس لدينا أية معلومات عما إذا كانوا قد أسسوا حسينية في ذلك الزمان، ولكن موقع «ميرزا القصاب» يذكر أن عائلة بن رجب انتقلت من البلاد القديم إلى المنامة العام 1783 ولا نعلم مصدر هذه المعلومة، مع أن بن رجب كانوا في مقابة، كما هو لقب أحد أعلامهم الشيخ محمد بن الحسن بن رجب المقابي الرويسي البحراني، ثم انتقلوا إلى الرويس كما تذكر بعض الروايات، ولا نجد في القرنين 16 و17م، ذكراً لحسينية لهذه العائلة العريقة في وجودها على أرض البحرين، أي باسم بن رجب، وإن كان البعض يؤمن بروايات أن أول حسينية في المنامة أقامتها عائلة بن رجب، كما يذكر ميرزا القصاب كانت العام 1792 كمبنى مستقل في فريق الحطب، وهو نفس المأتم الحالي المعروف بمأتم بن رجب والمجاور لبيت عائلة بن رجب والعريض والذي مازال قائماً إلى الآن، ولعل ما يدعم فرضية تأسيس الحسينية في مطلع القرن 19، ما ذكره جعفر بن حسن بن رجب، من أن وجود حسينية العجم بقرب بيوت بن رجب في فريق الحطب منذ العام 1881، بحسب معلومات علي أكبر بوشهري، خير دليل على أن حسينية بن رجب سابقة لهذا التاريخ بكثير، وأنها كانت قائمة بالفعل، وإلا لما جاورتها حسينية أخرى تأثراً بها.
ويذكر جعفر بن رجب، أن الحسينية كانت ملتقى للأعيان والتجار، ورجال الدين، وأصحاب الحل والعقد على المستوى الشعبي في المنامة والقرى، بدليل أن حفل تأبين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة ومبايعة نجله الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في الثلاثينات من القرن العشرين؛ تمت في حسينية بن رجب بحضور المعتمد السياسي البريطاني (Percy Gordon Loch ) والمستشار (Charles Dalrymple Belgrave)، وجمع غفير من الشخصيات والوجهاء في البلاد، وخلال أحداث الخمسينيات والتي بدأت في محرم أيضًا؛ فتحت الحسينية أبوابها وعائلة بن رجب صدورهم، لدرء الفتنة وتوحيد الصف والكلمة بين الطائفتين الكريمتين، وفيها ألقى الشيخ أحمد العصفور، وتقي البحارنة، ومحمود المردي؛ كلمات وطنية راقية في هذا السياق.
( اللهمَّ صل وسلم على محمد وآله وسلم ) .