حقيقة - وبكل تجرد - عندما قرأت تصريحات نائب رئيس لجنة الرقابة الادارية والمالية نبيل ابراهيم شعرت بالاطمئنان من ان الدنيا مازالت بخير، ومازال هناك رجال على استعداد لأن يقولوا الكلمة الصادقة لا للإثارة، وحبا للمعارضة، وانما لأن قلبهم على مستقبل هذه المملكة. وشعرت انه ليس كلام رجل يطلقها بطريقة عابرة لأجل تسويق اعلامي معدّ له، وانما يعكس توجها - يجب أن نراهن عليه - يقوده عظمة الملك.
هذا ما طرحه نبيل ابراهيم ان محاربة الفساد ايقاع يدعمه الملك. كان النائب صريحا بكل المقاييس لذلك، وانا اقرأ تصريحاته في الصحافة مندهشا وعيني تتسع تعجبا حتى رحت اطلب (شريط الندوة)... وضعته في آلة التسجيل فازددت اندهاشا، ورحت أسأل نفسي، ايعقل ان يقال كل هذا النقد؟ وفي أين؟ في البحرين؟ ومن قبل من؟ احد الرموز الاولى في قوة دفاع البحرين!!!
ورحت اسمع مصغيا لكل ما يقوله عن فساد هنا وفساد هناك، وعن العمل المزدوج للطابور الخامس الذي مازال يخلق في مجتمعنا الخليجي للأيدي العاملة الاجنبية حيث تستنفد خيرات البلد ويعمل بعضها كجواسيس على اوطاننا.
وبلغ به الاندفاع لمحاربة الفساد الاداري المالي حدا بان عاتب الجمعيات السياسية لقصورها عن ملاحقة الفساد وراح يصفها بالسلبية في متابعة قضايا الفساد فقال وهو يضع الكرة في ملعب جمعياتنا السياسية: «لم تتلق اللجنة الا اربع قضايا، على رغم ما يقال عن انتشار الفساد في البلاد فالجمعيات السياسية لم تأتنا إلا بأربع قضايا فقط»، وبلغت به الشفافية ان دعاها فقال: «نحن اليوم في عهد الشفافية يجب ألا نخفي الحقائق، ولا نتذرع بأن هذا عسكري ليس له حق الكلام...، الوضع في البلد يسمح بالكلام، واذا لم تتكلم فالعيب فيك». وكلام النائب يعزز عندنا كصحافة موقف ملاحقة الفساد في أية مؤسسة حكومية في المجتمع. بكل هذه الجرأة والشفافية راحت سهام النقد تنطلق من كنانة هذا المسئول الرسمي مشجعة كل رقيب على أن ينتقد الفساد كي «ترفع راية الاصلاح الادارية، حتى يمكن للسفينة ان تسير الى الامام». فهو يرى ان العائق الاول لعدم سير السفينة الاصلاحية هو الفساد المتراكم في الوزارات والمؤسسات في القطاع العام والخاص.
ورحت أسائل نفسي بعد كل هذا الطرح الصريح أين هي الأقلام الجريئة في نقد الدولة والمجتمع؟ لماذا لا تقوم بالطرح والتحليل، والتغطية الكاملة لهذه الندوة التي بتغطيتها سيكتشف كثير من الناس ذلك الهامش الذي اعطاه مشروع الاصلاح من الصراحة والشفافية والنقد.
وهذا الكلام يقودني الى كلمة راح يرددها كثير من الكتاب والصحافيين الذين التقوا قبل شهور مع الملك وهو يدعوهم ويحفزهم إلى «ضرورة محاربة الممارسات الخاطئة التي قد تصل احيانا إلى أعلى المستويات، وضرب مثالا ببعض الوزراء دون تسميتهم، وكيف ان الوزير يستلم الوزارة المفترض انها مسئولية في عنقه، فاذا به يحولها إلى ملكية خاصة، وفجأة تجدها امتلأت بالموظفين من عائلته نفسها، وتنهال عليها الانتقادات من كل حدب وصوب، وهذه ممارسات خاطئة يجب ان تقوّم».
فعلا ان مشروع الاصلاح يحتاج الى دعم، ويحتاج إلى مساندة حقيقية، ويحتاج الى رجال من كل الاطياف لمواجهة تلك العقبات الصخرية التي بنيت حقبة من السنين، ومن الاغتراب السياسي، ولهذا يجب ان نعزز الثقة بيننا وبين عظمة الملك، ونكون عضدا له في محاربة الفساد الذي مازال جاثما على قلب بعض مؤسساتنا الوطنية.
وليس هذا كلاما للدعاية، والتسويق الذاتي، أو من قبيل الولاء المغشوش الذي يبحث عن كل نقطة صغيرة او كبيرة إلا سلط عليها ضوء المدح بطريقة خارجة عن اللباقة، واللياقة والاتزان في سبيل الحصول على المكاسب الشخصية البحتة فالزائد كما الناقص وقد يأتي مردوده عكسيا فمشروعنا الاصلاحي ترسخت صدقيته لدى الشارع بما قدمه من مبادرات تاريخية كبيرة من قبيل تنظيف السجون، وعودة المبعدين، وحرية الصحافة، واستيعاب بعض مظاهر الفقر.
فأنا كشخص في المجتمع احمل تكوينا ثقافيا يؤهلني ولو جزئيا لقراءة صدقية المشروع، اشعر بصدقيته عندما يلامس نبض الشارع، وعندما ارى رجلا بحجم نائب رئيس لجنة الرقابة الادارية والمالية يتكلم بهكذا شفافية.
قد يفهم البعض اني ضد الثناء، ابدا فالثناء شيء لا بد منه في حياة البشر، ولكن ما هو مشوه للمجتمع والدول ان يتخذه البعض طريقا فئويا شخصانيا للتسلق الشخصي المادي البحت على طريقة ذلك المذيع - في احدى الدول العربية - ففي تعليق على زيارة احد الوزراء لمزرعة دواجن قال مذيع الراديو: ان الدجاج «طار» من الفرحة لتشريف الوزير. فما قيمة إنسان يكيل المدح للسلطة وهو من جانب آخر يبتزها ويسرق المال العام؟ كم من تاجر ورجل أعمال تجده في الصفوف الامامية في الاحتفالات الوطنية وغيرها وجيبه يكاد ان ينفجر من مال الدولة، ومال الشعب؟!
وعلى حد قول عظمة الملك «يجعل من الوزارة ملكا خاصا وفجأة تجدها امتلأت بالموظفين من عائلته نفسها!!!».
ان التلاعب بأموال الدولة تعني شيئا واحدا هو هدر موازنة الدولة الذي بدوره سيسبب عجزا للموازنة والذي سيسبب انخفاض الصرف الحكومي وشحته لمعيشة المواطن الذي سيزداد فقرا واحباطا، ما يسبب عدم الاستقرار السياسي.
فالمفسد هو في نهاية المطاف - وان كال المديح - عامل سياسي في عدم استقرار المجتمع والسلطة.
ولعل اقرب الناس - في ظل انعدام الرقابة البرلمانية والصحافية - إلى الفساد هم الوزراء، ليسوا جميعا فكما يوجد عند تشكيل اية وزارة في أي مجتمع وزراء صالحون، فإنه في المقابل يوجد وزراء فاسدون.
وهي ليست محلية فقط، وانما دولية، وعالمية ايضا، فكثيرا ما قرأنا عبر أجهزة الاعلام عن وزراء سرقوا دولهم، وصنعوا امبراطوريات مالية، وكانوا سببا في تفشي البطالة، والفقر، واحتكار السوق وشيوع عدم الاستقرار السياسي، وتفشي ظواهر نفسية من الغبن الاجتماعي.
وكانوا بمثابة حجر عثرة امام أي تغيير سواء كان في قارة آسيا في ماليزيا أو اليابان أو في القارة الافريقية كما حدث في مصر وحتى دول أوروبية.
فلا احد عصيّ عن سرقة المال العام خصوصا في دولنا العربية القائمة على انعدام الرقابة الحقيقية، مجتمعنا الفقير دائما ما يردد وهو يسلي نفسه هازئا «المال السايب يعلم على السرقة».
وما اسهل الدفع من جيب الغير وليس خفيا علينا ابتسامة محمد حسنين هيكل الهزلية وهو يفصح عن خسارة تاجر خليجي عشية غزو العراق للكويت، فقد ذكر هيكل انه «خسر على مائدة القمار في تلك الليلة 12 مليون دولار». المصدر: «حرب الخليج أوهام النصر والقوة». هيكل
قد يقول البعض ان هذا الحديث قد تجاوز المواقع المحرمة غير اني اقول: ينص القانون كما جاء في الدستور الحالي في المادة (48) على أنه «لا يجوز للوزير اثناء توليه الوزارة ان يتولى اية وظيفة عامة أخرى، أو أن يزاول، ولو بطريق غير مباشر، مهنة حرة أو عملا صناعيا أو تجاريا أو ماليا... أو أن يجمع بين الوزارة والعضوية في مجلس ادارة أي شركة الا كممثل للحكومة».
«ولا يجوز له خلال تلك المدة كذلك ان يشتري، أو يستأجر مالا من أموال الدولة، ولو بطريقة المزاد العلني، أو أن يؤجرها، أو يبيعها شيئا من أمواله، أو يقاضيها عليه» فبالتالي يجوز للصحافة ان تناقش، وتسأل خصوصا وهي تدمغ بالنقض بطن وزاراتنا التي نتمنى ضمودها من تجريح بعض المواد كالمادة (65) التي تقول: «ويجوز ان يؤدي الاستجواب الى طرح موضوع الثقة بالوزير على مجلس النواب».
فاذا كانت هذه المادة تعطي صلاحيات استجواب الوزراء ومناقشتهم وحجب الثقة عنهم فمن حق الصحافة ايضا مناقشة الوزارات، اية وزارة وأية دائرة حكومية. وكم عندنا من الدوائر التي تحتاج الى نقاش جاد في طريقة صرف المال وغيره طول السنين الماضية.
يقول نائب رئيس لجنة الرقابة المالية والادارية في الديوان الملكي في سياق كلامه عن فساد بعض الوزراء في البحرين: «ان الفساد منتشر في اجهزة الدولة وفي بعض الشركات الكبرى» .
ان هذا الكلام خطير، كيف تؤتمن وزارات لأناس يعينون اقرباءهم المطرودين من وزارات اخرى؟ كيف نستطيع ان نأتمن على هذه الوزارات - التي لم يذكرها النائب - أناسا راحوا بطريقة نفعية خاصة تدفعهم المحسوبية والمصلحة الخاصة في توظيف اناس ليسوا مؤهلين؟ فقط وُظفوا للقرابة، او بحكم العلاقة المعرفية والزمالة المدرسية؟
هل يمكن للمجتمع والناس ان تأمن على نفسها في دائرة أو وزارة المسئول الاول فيها يقوم بهذه التصرفات؟
للأسف على رغم حجم الفساد الذي بدأت تزكم رائحته انوف الجميع، لم نسمع في تاريخ البحرين ان وزيرا استقال، او خرج على الناس في التلفزيون يعتذر لحادث معين أو لكارثة في وزارة... وما الى ذلك.
في العالم كله يمكن للوزير أن يستقيل أما في بلادنا فيستحيل.
الناس في الحقيقة مازالت - وفي ظل مشروع الاصلاح الكبير - تنتظر صورة التشكيلة الجديدة للحكومة.
هل ستكون دماء جديدة تتناسب مع طموح المشروع وتحمل روحية عظمة الملك المنفتحة والمتطلعة الى مزيد من الشفافية، والانفتاح على هموم الناس؟ نحن نقدر المواقف التنموية كلها التي قدمها الوزراء، ولكن اما آن الاوان ونحن نرى تغيرا في كل شيء أن تنتهي وتختفي قاعدة «ما في ابها البلد الا هالولد» وتكون هناك دماء جديدة خصوصا ان هذه المسألة في يد اصحاب القرار؟.
نحن بحاجة ماسة الى تقليل الانفاق، وزيادة الموارد وتثبيت المستوى المتوازن للموازنة العامة بدل الهدر الاستهلاكي لموازنة بعض وزاراتنا، وايقاف التسرب الذي يخرج بسبب الجرح البيروقراطي الغائر في بعض وزاراتنا.
ونحن نقول ان الشركات العظمى في الدول الغربية ذات الفوائد الضخمة تقوم بتخصيص قسم من ريع الشركة لصالح مشروعات خيرية لصالح المواطن من قبيل انشاء جامعات، أو مستشفيات مقابل هذه الربحية التي تحصل عليها بطريقة تعسفية جنونية، لكننا وللأسف الشديد لم نرَ الى اليوم مشروعا قامت به هذه الشركات يؤسَّس من فوائدها الخيالية والسبب ان المواطن البحريني دائما هو الحلقة الأضعف في كل أمر.
وبدأت تتسرب اخبار ان هناك نية - وان لم تتبلور بطريقة واضحة إلى الآن - في تسريحات ولو على طريقة التقاعد المؤقت لبعض هذه الشركات. فقد اصبح التقاعد المؤقت للمواطن، والتقاعد المثبت الى ارذل العمر للأجنبي سمة بارزة في مثل هذه الشركات. ومن أمن العقوبة الرقابية اساء التعاطي الحسن مع المواطن.
لقد اضحكني تصريح الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات عندما قال انه سيعمل معتمدا في خطته القائمة على بعض الكوادر البحرينية، ضحكت فقلت هذه هي الخطة المعلنة اما الخطة غير المعلنة فهي الضغط المتواصل للتسريح أو تهريب أو تغيير الكوادر البحرينية. مساكين اولئك البحرينيون والمديرون الذين بقوا 25 عاما وهم يعملون لأجل الشركة وبين عشية وضحاها اذا بهم اما مهمشون واما مطرودون على طريقة (التقاعد المبكر) الذي اصبح اداة ساحرة، وسلاحا مشهورا يستخدمه الخبراء الاجانب الذين فشلوا في شركات سابقة فجاءوا ليفشلوا مرة أخرى ويفرضوا اجانب آخرين من بلادهم ضد الحلقة الاضعف في اكثر شركاتنا ووزاراتنا، اعني بذلك المواطن!!!.
ختاما نقول: لقد اصبح يتردد في مسامع الناس اسم آخر عُرف عنه الكثير من التجاوزات قد يعيّن في ظل التشكيلات الجديدة، لقد وضع الناس ايديهم على قلوبهم، وهم يقولون: نتمنى ألا يكون ذلك صحيحا، فالناس شبعت احباطات ادارية وتتمنى على الدولة ان تأخذ ذلك في الاعتبار، وهي اهل لذلك.
فالناس تتطلع ايضا الى تغيير دماء هذه الادارة وتلك لا أن تستبدل برموز اخرى هشة متلكئة متسلقة قائمة على اصطياد المناسبات والعمل على تلميع الصورة الشخصية، وإن كان على حساب المصلحة العامة، خصوصا ان بعض الاسماء التي بدأت تُتداول لرئاسة بعض الدوائر عُرف تاريخ بعضها بالتحايل على الناس تجاريا في زمن الحقبة الماضية لولا انتشالهم من ذلك الواقع في ظروف غامضة. ولكن كل ذلك شيء، وأن يوضعوا على رقاب الناس مرة اخرى شيء آخر. وهذا ما لا نتمناه لهذه الادارات التي نتمنى تنظيفها وتطهيرها
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 43 - الجمعة 18 أكتوبر 2002م الموافق 11 شعبان 1423هـ