توصيف المشهد السياسي الحالي في مملكة البحرين عملية شديدة التعقيد، فبعد أيام من المقابلات واللقاءات المختلفة مع القوى والشخصيات البحرينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى مسافة بضعة أيام من توجه جمهور الناخبين إلى صناديق الانتخابات لاختيار أول مجلس نواب منتخب منذ أكثر من ربع قرن، في واحدة من تجارب المشاركة السياسية العربية الحديثة والجريئة، تثار أسئلة وتظهر علامات استفهام وتتوقع نتائج تصبّ كلها في محاولة رسم التوجه السياسي المستقبلي في البحرين، هذا البلد الصغير الحجم والقليل السكان والمتواضع في موارده المالية، ولكنه المؤثر في جيرانه، و البالغ الثراء في قواه السكانية وإمكاناته المستقبلية.
يلمس المراقب في البحرين توافقا يكاد يصل إلى درجة الاجماع على حقيقة واضحة هي أن ملك البحرين الشاب الشيخ حمد بن عيسى يملك مشروعا تحديثيا، سابق فيه الزمن، وفاق معظم التوقعات ونظر إلى المستقبل بثقة، وهو مشروع تكمن أهميته بجانب افقه الواسع في أنه بدأ تنفيذه قبل حوادث 11 سبتمبر/أيلول، وذلك دليل إلى رؤية متقدمة ثاقبة للمستقبل شهد له بها المعارضون قبل المؤيدين، وتلمسه في كل النشاط السياسي المحتدم في المنتديات المختلفة، فجهده ملحوظ ويقينه في الشعب ثابت، بل انك تسمع مقارنة عادلة بين خطواته التحديثية وخطوات الأمير الراحل عبدالله السالم - طيب الله ثراه - والذي لا يزال الكويتيون يشيرون إليه بامتنان، ويصفونه بأنه أبو الديمقراطية الحديثة. وحقيقة الأمر أن دور الأفراد والقيادات في اخذ المبادرة والدفع بمشروعات تاريخية، أمر ثابت في التاريخ، وهو حقيقة في تاريخنا العربي. فمنذ أن تسلم الشيخ حمد زمام الحكم وهو يقدم المبادرات في عملية التحديث على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ويقدم الجديد وغير المعهود للمجتمع في منطقة لا يتعثر فيها المخاض الديمقراطي فقط بل والتنموي أيضا. سلسلة من الإصلاحات والتفاصيل كثيرة في مسيرة الإصلاح، إلا أن الجوهري فيها هو الاستفتاء الكبير الذي جرى العام الماضي عن ميثاق وطني تمهيدا للشروع في تجربة جديدة تعتمد على المواطنين رجال ونساء وتنبع منهم لإقامة حكم ديمقراطي يعتمد على مجلسين، الأول منتخب والثاني معين وقد نال الاستفتاء على الميثاق من المواطنين غالبية تكاد تكون مطلقة (98 في المئة) بدأ بعدها بعدد من الخطوات الإصلاحية، منها على سبيل المثال لا الحصر، إزالة القوانين المقيدة للحريات، ودعوة الجميع بمن فيهم المعارضون في الخارج للعودة والمساهمة في بناء الوطن، حتى غدت البحرين اليوم من دون معارضين خارج الوطن، ومن دون سجين سياسي داخل الوطن.
وفي الانتخابات البلدية في مايو/ أيار الماضي التي هي من ضمن سلسلة الإصلاحات إذ تمت للمرة الأولى بعد انقطاع طويل، وشاركت المرأة فيها، وهي خطوة متقدمة، وان لم يحالفها الحظ في الحصول على مقعد، بعدما حالفها المشرع في الحصول على الحق نفسه وهو المشاركة، كما أن المرأة رشحت نفسها للانتخابات العامة التي ستجرى الخميس المقبل 24 من الشهر الجاري بعدما اتيح لها ذلك، وتسجل البحرين اسمها كأول دولة خليجية تسمح للمرأة بالترشح، اذ رشحت ثماني نساء من بين مئة وتسعين مترشحا تتنافس معهم على أربعين مقعدا للمجلس المنتخب.
الانفتاح الديمقراطي فجّر كوامن كبيرة وكثيرة، وفتح أبواب النقاش على مصراعيه في المجتمع البحريني، فلا تجد صحيفة يومية أو غيرها إلا وكانت مثقلة بالآراء المختلفة في حوار وطني غير مسبوق، إلى درجة أن الجمعيات ذات المنحى السياسي أو العمالي أو المهني والاجتماعي التي رخص لها قد قاربت الثلاثمئة جمعية، والجميع يشعر بأن ثمة حاجة ماسة إلى فتح حوار عميق ومتشعب لمشكلات سُكت عنها فترة طويلة، أو هي نوقشت خلف أبواب مغلقة لدى الجماعات السياسية، أو في الدولة من دون أن تخرج إلى العلن، فجاءت مبادرات الملك الشيخ حمد بن عيسى لتضعها تحت أشعة الشمس الصحية، وتحت السقف العالي من الحريات الجديدة.
تدافعت المناقشات واختلفت الاجتهادات ولاتزال، بعضها عقلاني وبعضها يريد أن يسمع صوته ليتأكد فقط أن له صوتا! ونحن على قرب الفترة الزمنية التي تفصلنا عن اليوم الكبير، يوم الانتخابات، نجد أن الجسم السياسي في البحرين مختلف على الكثير من السياسات، لكن ما يطمئن أنه مختلف على التفاصيل أما الثوابت فقد تم الاتفاق عليها. ثقل الماضي التجربة الديمقراطية الجديدة في البحرين تأخذ طابعا ثنائيا، إذ تتكون من مجلس منتخب وآخر معين. يقول لك البعض أن هذا التوجه اتخذ لسببين: أولا لأنه أخذ علما بتعثر تجربة الكويت التي واجهت صعوبات عديدة وتوقفت أكثر من مرة، والخوف من التوقف والعودة إلى المربع الأول هو ما جعل الأمر يحتاط له بوضع المجلسين، خصوصا أن دستور البحرين الذي وضع في العام 1973 هو صورة طبق الأصل من الدستور الكويتي، والسبب الثاني هو أن بعض التجارب العربية وغير العربية تأخذ بهذا التوجه لضبط التوازن بين مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، وبينها وبين الأوضاع الإقليمية المحيطة، والمعارضون الذين يدعون إلى المقاطعة في الانتخابات المقبلة يعترضون على التساوي في الاختصاصات للمجلسين، وهي قضية يراوح حولها النقاش اليوم، على رغم أن التساوي هذا ليس كاملا أو متماثلا.
من أجل فهم الإشكالية القائمة لا بد من العودة إلى تجربة المشاركة الأولى التي لم تستمر طويلا، وأخذت من الزمن فقط سنتين بعد نيل الاستقلال، وكانت بين 1973 و1975، وقتها حُل المجلس المنتخب على خلفية نزاع بين السلطتين، كانت الدولة تريد ضبط الممارسات التي وجدت أنها مضطرة إليها بسبب التغيرات في الوضع الإقليمي، بتقديم قوانين مقيدة، رأى البعض حينها أنها تتناسب مع الوضع القائم والجغرافيا المحيطة، وأراد المجلس أن يلعب دورا يفوق قدرة البحرين، كأن يرسل برقية لتهنئة الفيتناميين بانتصارهم على أميركا!... في ممارسة معزولة وشديدة التطرف عن التوجهات الرئيسية للبلاد.
الجميع الآن يعترف بأن التجربة الأولى شابها بعض التسرع، وربما المراهقة السياسية، فقد كان من يريد زيادة الشعبية عليه أن يرفع من سقف النقد لملامسة الخطوط الحمراء، بصرف النظر عن الممكن والمطلوب للناس. لكن الثمن الذي دفع في وقف التجربة كان أكبر من الأخطاء، اذ توقفت التجربة لفترة طويلة هي ربع قرن من الزمان، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، وفي غياب الرقابة تتضخم حتى الأخطاء الصغيرة، وتزداد الأخطاء الكبيرة سوءا. وتنقسم التجمعات السياسية في البحرين والبالغ عددها، حتى الأسبوع الماضي، 11 جمعية بين كبيرة وصغيرة، تجاه الانتخابات المقبلة إلى فريقين، واحد مقدم على خوضها متحمس لها، وآخر مقاطع. فكرة المقاطعة هي من تراث العمل السياسي في البحرين، فقد وجد البعض فيها طريقة للضغط، وإذا راجعنا فكرة المقاطعة ستبرز لنا في كل منعطف، ففي المجلس التأسيسي الذي نتج عنه الدستور الأول الذي يطالب البعض اليوم بعودته كما كان، كان نصف أعضاء المجلس منتخب والنصف الثاني معين، وقتها قاطع البعض ذلك المجلس بسبب هذا التعيين، ولكن المجلس التأسيسي ذاك افرز دستور 1973 الذي هو في رأي مقاطعي اليوم دستور مثالي تجدر العودة إليه! ويظهر عنصر المقاطعة مرة أخرى في لجنة الميثاق التي انسحبت منها مجموعة من الأعضاء، وسط ترحيب المعارضة، ثم عاد بعضهم إلى اللجنة، إلا أن الميثاق نفسه صدر ووافق عليه عموم المقترعين في استفتاء شعبي كبير. ويلاحظ أن موقع (الوفاق) على الانترنت، وهي أكبر التجمعات المطالبة بالمقاطعة وأهمها يظهر عليه استفتاءان، واحد عن الاشتراك في الانتخابات البلدية، التي جرت في 16 مايو الماضي، وتظهر النتائج التي اطلعت عليها أن هناك نسبة كبيرة من المستجيبين تدعو للمقاطعة، ومع ذلك دخلت جمعية الوفاق سباق الانتخابات البلدية وفازت بما مجموعه عشرون عضوا من الخمسين المقررة، كما يظهر الموقع اليوم نسبا كبيرة تدعو إلى مقاطعة الانتخابات العامة المقبلة.
الوسيلة والغاية المتدافعتان على أبواب المشاركة تبدوان ممارسة طبيعية كجزء من العمل السياسي في البحرين، وقد قابل بعض القوى السياسية المشروع الإصلاحي في بدايته بموقف كهذا. قلت أن التجمعات السياسية أكثر من عشر، بعضها مقاطع وهي أربع، مثل الوفاق (وهو تجمع لعدد من القوى الشيعية في صلبه حركة أحرار البحرين) وجمعية العمل الوطني الديمقراطي (الجبهة الشعبية، مختلطة) والتجمع القومي (البعث والقوميون، مختلط) والعمل الوطني الإسلامي (تحت التأسيس)، أما من قرر خوض الانتخابات فهم المنبر الديمقراطي (جبهة التحرير، مختلطة) والشورى والأصالة (إخوان وسلف وسنة) ومجموعات أخرى، وعدد من المستقلين، عدا بعض التجمعات الكبيرة، فإن عددا من التجمعات هي في الحقيقة جنرالات من دون جنود، تجمعات مثقفين ومهنيين. ويجادل البعض أن التجمعات السياسية الحقيقية تنبع من البرلمانات، والقليل منها من خارجه، وهي حقيقة تصدق على كثير من التجارب السياسية، والبحرين ليست استثناء.
واحدة من إشكالات العمل السياسي الحالي في البحرين أن المشهد السياسي اختلف عنه في السبعينات، لقد كان المتصدر وقتها للعمل السياسي هي القوى (القومية واليسارية) أما اليوم فإن المشهد مثقل بالقوى ذات الطابع الإسلامي (سني أو شيعي) وأن هذا الاختلاف هو نتيجة لتغيرات كبيرة حدثت في ربع القرن الماضي في المنطقة، منها فشل المشروع القومي ومنها انتصار الثورة الإيرانية، والمشهد في البحرين مثله مثل غيره في المنطقة ذو حساسية شديدة في التأثر بما حوله، وبالتالي فإن المتوقع أن تكون التيارات ذات المنحى السياسي الإسلامي هي صاحبة الثقل الوافي في المرحلة المقبلة، مما يشكل هاجسا لدى الفئات الليبرالية في احتمال التضييق على الحريات المدنية المكتسبة في خضم الصراع السياسي.
تسمع من البعض ضرورة مراجعة الماضي من أجل اخذ العبرة، لا من أجل محاكمة الماضي ونبش سلبياته، ولكن هذا الماضي يطل برأسه، وخطوات إعادة بناء الثقة التي يجتهد الملك في تنفيذها بخطواته الإصلاحية، تواجه من البعض بالصدود، وذلك بسبب التراكمات التاريخية التي يصر البعض على عدم مغادرتها، أو بسبب خطاب سياسي تعود طويلا أن يقبع خلف السرية لمدة طويلة فاجأته خطوات التحديث فارتبك، وهو يواجه بشقيه الأصولي واليساري معضلة العجز عن تقديم خطاب تنموي، ووقوع في رومانسية سياسية تتخندق حول القديم المعروف، من دون تجربة الجديد الممكن، مثخنة بآلام التجربة السابقة من دون رهان على مجتمع تعددي حواري منفتح للمستقبل، تأخذ في الحسبان طموحات جيل جديد، وتطورات إقليمية بالغة التجذر.
الحركة الإصلاحية في البحرين التي يقودها الملك تقف الغالبية الصامتة تجاهها موقف المتمني غير المؤثر، ومن دون أن تتقدم طلائع هذه الغالبية الصامتة، لتقديم خطاب سياسي جديد، يؤكد أن الديمقراطية هي وسيلة لتحقيق التنمية وليست هدفا بحد ذاتها، وهذه هي الطريق الصعب ولكن الأصوب لحل التناقضات المتمثلة في سلبيات الطائفية، وقصور التنمية في ضبط الموارد ومنع العبث بها، ويقدم فوق ذلك القدوة الصالحة.
فالحكم الديمقراطي لم يصمم في أي مجتمع ليدعي الكفاءة الكاملة، بل هو حكم تُكتشف أخطاؤه من خلال الممارسة، ولقد وجدت في البحرين مع الضجيج المصاحب للتجربة الوليدة والجديدة مظاهر مفرحة، لقد وفرت الخطوات الإصلاحية الأولى ثلث موازنات المشروعات الكبرى، وبدّل سلاح الفضح بسلاح النقد، وانتشرت مجالس السياسة المختلطة، وأديرت الحوارات السياسية بشكل حضاري وخلاق، بل نشط الإبداع وانتشر العمل التطوعي. إن ملامح البلاد تتغير وتتبدل مظاهرها، وهي بلا شك تغيير إلى الأفضل
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 43 - الجمعة 18 أكتوبر 2002م الموافق 11 شعبان 1423هـ