من جزيرة بالي في اندونيسيا إلى بغداد في العراق هناك لغة واحدة تسيطر على العلاقات الدولية: لغة الدم.
الرئيس العراقي هدد في خطاب القسم بسفك الدماء إذا تجرأت واشنطن على مهاجمة بلاد الرافدين. والرئيس الأميركي الذي يحظى بتأييد كاسح من الكونغرس يستخدم لغة الوعيد والتهديد نفسها ضد اكثر من 40 دولة حددها له مثلث الشر (تشيني، رامسفيلد، رايس). وباسم مكافحة الارهاب يخطط المثلث الحاكم في البيت الأبيض والبنتاغون بشن سلسلة حروب دولية من جنوب شرقي آسيا إلى البحر المتوسط.
هذه المساحة الجغرافية، كانت سابقا قبل الاكتشافات، هي منطقة المجال البشري ـ السياسي للعالم الاسلامي، ومنها انطلقت الفتوحات اولا والقوافل التجارية ثانيا وبعدها السفن لتعبر البحار والمحيطات والبلدان لتأسيس علاقات دولية ربطت بين آسيا واوروبا. وأطلق على هذه الخطوط طرق التجارة القديمة أو خط الحرير. خط الحرير كان يتبدل باستمرار تبعا للظروف السياسية المحيطة به. أحيانا كان يرتفع شمالا لربط أوروبا بالهند والصين من طريق أفغانستان وبحر قزوين وصولا إلى البحر الاسود. وأحيانا كان يهبط إلى الوسط ليمر في باكستان وإيران والخليج والعراق وتركيا وينتهي في اسطنبول ليعبر إلى أوروبا. وأحيانا كان يستقر في الجنوب مستخدما السفن من الملايو وجنوب الهند إلى عمان والبحرين والبصرة ويذهب إلى شمال سورية (حلب) وينتهي في مدن شرق البحر المتوسط وتنطلق من سواحله السفن التجارية إلى البندقية وغيرها من المدن الساحلية.
هذه الخطوط التجارية كانت تشكل مركز الاقتصاد العالمي ومنها تعبر القوافل والسفن لتربط العالم القديم من غربه إلى شرقه. وكان العالم الاسلامي هو قلب تلك الحركة النابضة. ولهذا السبب تركز تاريخيا الصراع الدولي على هذه الخطوط التجارية. فمن يسيطر عسكريا عليها يسيطر سياسيا على الاقتصاد العالمي. وكانت (وهذا هو سر كراهية الإسلام) الغلبة دائما لدول العالم الاسلامي وحواضره. فعلى هذه الخطوط التجارية نهضت اعظم المدن واكبرها واقواها وشواهدها لاتزال قائمة من سمرقند وطشقند إلى اسطنبول. استقرت هذه المعادلة إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وخلاله وبعده، بدأت تميل الكفة انطلاقا من اكتشاف خطوط مواصلات وتجارة جديدة حتى اكتشف العالم الجديد.
قبل اكتشاف أميركا اكتشفت البرتغال خط رأس الرجاء الصالح فالتفت حول افريقيا ووصلت إلى الخليج (بحر العرب) والهند وأندونيسيا والفلبين. بعد البرتغال جاء عصر اسبانيا الكاثوليكية ونجحت في «كثلكة» الفلبين. والفلبين هي الدولة الكاثوليكية الوحيدة في آسيا. بعد اسبانيا دخلت بريطانيا وهولندا وفرنسا على الخط. فاختلفت سياساتها عن تلك البرتغالية والاسبانية. لجأت هولندا إلى تأسيس شركة تجارية احتكرت إلى فترة طويلة تبادل البضائع بين الطرفين. بينما استقرت بريطانيا في استراليا ونيوزيلندا واقتلعت سكان البلاد وأسكنت مكانهم جماعات أوروبية جلبتها معها من القارة. لجأت بريطانيا عن طريق الاستيطان إلى تثبيت مواقعها وانطلقت منها نحو شرق آسيا وجنوبها وصولا إلى الهند وبحر العرب وإيران والخليج.
وعلى رغم هذا الاكتشاف الجغرافي فشلت أوروبا في اختراق آسيا دينيا، واضافة الى استراليا ونيوزيلندا والفلبين تعتبر كوريا الجنوبية (مسيحية بروتستانتية) صاحبة كنيسة خاصة ومستقلة قامت بجهود بعثات التبشير تأثرا بدور الولايات المتحدة في دعمها ضد الشيوعية (الصين والسوفيات) وحمايتها من اليابان وطموحاتها الاقليمية. منذ القرن الخامس عشر إلى العشرين انهارت خطوط التجارة القديمة تباعا وتحولت المدن المزدهرة إلى قرى كبيرة وتراجع مركزها الدولي وصارت عواصم مهمشة تتعرض لهجمات واحتلالات كان اقواها واكبرها نجاح روسيا في السيطرة عليها وضمها إلى ما عرف لاحقا/ سابقا «الاتحاد السوفياتي».
الخطر السوفياتي دفع الولايات المتحدة إلى دخول المنطقة واقتحامها بالتنسيق مع الاستعمار القديم او بالنيابة عنه، آنذاك (من الخمسينات إلى التسعينات) وضعت إدارات البيت الابيض خطة استراتيجية تقوم على فكرة مركزية وهي محاربة الشيوعية ومنع الاتحاد السوفياتي من التمدد السياسي - التجارى إلى المياه الدافئة، متبعة في ذلك تكتيكات مختلفة منها مساعدة بعض الدول اقتصاديا ودعم بعض الدول عسكريا للنهوض ومواجهة الطموحات الشيوعية في شقيها السوفياتي والصيني.
الا ان تلك الفكرة انهارت بانهيار الاتحاد السوفياتي وتخلي الصين عن اولوياتها الايديولوجية. ومنذ تلك اللحظة اعادت واشنطن النظر في استراتيجيتها السابقة مستعيدة تلك الحرب القديمة مع العالم الاسلامي لاعادة السيطرة على خط التجارة الدولية القديم. فالخط القديم انهار اقتصاديا الا انه حافظ على اهميته السياسية وخطورته الجغرافية. فالاقتصاد يتغير وتبقى الجغرافيا السياسية ثابتة. فهي تعيد رسم المصالح وتضعها في سياق استراتيجي جديد. فالقديم لا يزول بل يعيد ترتيب نفسه ليندرج مجددا في الصراع الحديث. من بالي إلى بغداد تغير العالم كثيرا في القرون الخمسة الاخيرة الا ان لغة الدم لم تتبدل. فهي ما ان تختفي حتى تعود مجددا حاملة شعارات جديدة... إلا أن الجوهري فيها هو: من يسيطر على العالم القديم يسيطر على الجديد؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 43 - الجمعة 18 أكتوبر 2002م الموافق 11 شعبان 1423هـ