إن بعض الناس، بمن فيهم بعض المديرين، يحرمون أنفسهم من فن أساسي يسمى الاستماع، فمن خلال الاستماع يستطيع المرء أن يراكم ثروة من المعرفة من دون أية تكلفة. إن التعرف على ما يدورمن حولك، وتعلّم أفكار جديدة والحصول على توضيحات للقضايا والمسائل المبهمة بالنسبة لك، ليست سوى بعض الأمثلة على ما يمكن أن تستفيده من حسن الإستماع. عندما تستمع كمدير لموظفيك وهم يتحدثون بحرية ومن دون ضغوط، فإنك ستستفيد كثيراً. فالحرية في التعبير التي تتيحها لهم من خلال حسن الاستماع والإنصات لهم يجعلهم أكثر إيجابية في مقاربتهم للعمل، حيث سيكونون منفتحين بشكل أفضل وأكثر استعداداً للمشاركة.
هذا يذكرني بقصة أوّد أن أذكرها لكم. في واحدة من دورات الإدارة العليا التي حضرتها في المملكة المتحدة، قامت الكلية بترتيب زيارة لخبير في الخطابة لإعطائنا محاضرة عن الخطابة العامة. كان ذلك البروفيسور يبلغ من العمر ثمانين عاماً تقريباً، وقد خدم في الجيش البريطاني لسنوات كثيرة، سافر أثناءها إلى جميع أنحاء العالم، فزار الكثير من البلدان في آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط والخليج، والتقى أعداداً كبيرة من الناس من جنسيات وخلفيات وتقاليد وثقافات مختلفة. قال لنا حين جاء لإلقاء محاضرته لنا إنه أمضى أكثر من عشرين عاماً في تدريس ضباط رفيعي المستوى في الجيش البريطاني، وآخرين من كبار مديري الشركات على القيادة والخطابة. لم تكن طريقته في إلقاء المحاضرات طريقة تقليدية، مثل الوقوف والتحدث إلى الحاضرين لساعات يتلقى أثناءها التصفيق والحفاوة البالغة ثم يقول مع السلامة. لقد كان يقوم بزيارتنا يوماً واحداً في الأسبوع لمدة أربعة أسابيع. كان أثناء زياراته يطلب من كل مشارك التفكير في موضوع معين، سواء كان موضوع إدارة، أو يتعلق ببلد ما، وتقديم عرض للمشاركين الآخرين. بعد ذلك يقوم بالطلب من كل مشارك أن يعلق على العرض من حيث المضمون والطريقة التي تم تقديمه بها، وكيف يمكن تقديمه بطريقة أفضل. ليس ذلك فحسب، بل قام أيضاً بتسجيل العروض المقدمة بالفيديو وإعادة عرضها مرات عدة، بحيث يتم تسليط الضوء على تعليقات المشاركين وتعليقاته هو نفسه. أتذكر أنني قدمت عرضي التقديمي الأول عن بلدي البحرين ثم تلوته بعرضين آخرين في مواضيع مختلفة من الإدارة. وبنهاية وقت وجوده بيننا، كنا نحن المشاركين في الدورة قد أصبحنا بالتأكيد أكثر وعياً لقيمة وأهمية الاستماع.
واسمحوا لي كذلك أن أطلعكم على بعض من ملاحظاته في الجلسة الافتتاحية الأولى له معنا، حيث إن هذه التصريحات قد حفرت على نحو ما في ذهني، وأعتقد أنها ستبقى معي إلى الأبد. لقد بدأ معنا بالقول: «الاستماع هو عملية السطو الأكثر أمانة، فلماذا تحرم نفسك مثل هذا الشرف؟ كلما استمعت وأنصت أكثر، كلما تعلمت أكثر وحصلت على معرفة أكثر».
كما كان يكرر القول: «لقد أعطانا الخالق أذنين اثنتين ولساناً واحداً لسبب، والسبب هو أنه يمكننا الاستماع بضعف ما نتحدث». ومن المؤكد أننا لا نتعلم أي شيء إذا لم نستمع جيداً لما يتم تعليمه لنا. ومن صفات العظماء أنهم مستمعون جيّدون.
كما أوضح لنا كيف أننا نجهل قدر الضوضاء التي نخلقها عندما نتحدث، بل حتى أننا لا ندرك أن الضوضاء التي نخلقها قد تمنع الناس من الاستماع الجيّد، ويمكن أن تجعل من فك رموز ما نقوله للآخرين وفهمه من قبلهم من المستحيلات. وأضاف أنه إذا كنت لا تصدق كم من الضوضاء التي تصدر منك عندما تتكلم، ضع يديك وراء أذنيك وحاول أن تضغط عليهما بمعصميك، حتى تصبحا ملتويتين الى الأمام قليلاً. عندها حاول أن تتكلم، وبالتأكيد ستقدر كم من الضوضاء تكون قد خلقت.
كانت النقطة التي يريد أن يصل إليها هي إنه إذا كنت ترغب في التحدث، تأكد من أن تتحدث ببطء وبوضوح وبهدوء لضمان وصول الرسالة واضحة إلى المستمعين.
لكي تكون مستمعاً جيداً يجب أن تعطي نفسك والآخرين فرصة للاستماع. قد تكون لدى أعضاء فريقك مشاكل وقضايا متعددة، وأيضاً أفكار إبداعية جيّدة، وأنت لن تكون قادراً على معرفة هذه المشاكل والقضايا والأفكار الإبداعية إذا كنت لا تصغي جيّداً. من ناحية أخرى، يجب عليك أن تخلق جواً مريحاً لأعضاء فريقك عندما يرغبون في الحديث عن أي أمر معك. اختر مكاناً هادئاً، وحاول أن تجعلهم في وضع بحيث يمكنهم التحدث بحرية. أعطهم كل الوقت الذي يحتاجونه للحديث ولا تقاطعهم. إن مقاطعتهم تعني أنهم لن يكونوا قادرين على قول ما يريدون قوله، أو التعبير عن أنفسهم بشكل كافٍ، أو أنهم ينسون ما كانوا يودون قوله. وأخيراً تذكر أن الاستماع فن، وأنت لن تفهم أبداً ما هو الفن إذا لم تفتح عقلك وقلبك للتمتع به.
إقرأ أيضا لـ "صالح حسين"العدد 5238 - الأحد 08 يناير 2017م الموافق 10 ربيع الثاني 1438هـ