في اليوم الثاني استأنف منتدى اليسار العربي أعماله. تناول المحور الثالث اتجاهات اليسار في حقبه الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الترابط والانفكاك في علاقات العوالم الثلاثة، حيث أدارت الجلسة ياسمين ضيف الله. وقد شاركت مارغرت سكار بورو، طالبة الدكتوراه بجامعة أمهرست بورقة بشأن عبدالخالق محجوب، قضية الذاتية السودانية ما بين النكهة الماركسية الأوروبية والعربية والإفريقية، وفيها تعرض رؤية عبدالخالق وتحذيراته من مرحلة الاستعمار الجديد، التي ستتبع نهاية الاستعمار الرسمي. وكذلك تحذيرات بشأن مسألة جنوب السودان، والتي سيستخدمها الاستعمار الجديد، كما عرضت لأطروحاته بشأن دعم الاتحاد السوفياتي في تحرير بلدان العالم الثالث من الاستعمار، ودعمه لليسار، داعياً إلى الديمقراطية الاجتماعية في السودان، ونوه إلى موقف المثقفين الملتبس، كما عرضت إلى مسيرة محجوب وتحولاته الايديولوجية ورؤيته للمجتمع السوداني، ومقارباته الماركسية لطبيعة المجتمع السوداني الإسلامية العربية الإفريقية، وتجاذباته الفكرية الماركسية العربية والأوروبية والإفريقية. كما عرضت إلى موقفه تجاه «الإخوان المسلمين» وثورة أكتوبر 1964 وطبيعة ما أطلق عليه تعقيدات حقبته الاشتراكية في السودان. كما عرضت لرؤية محجوب لأعمال روزا لكسمبورغ وفانون، أما حجاج علي فتعرض في ورقته «قراءة اليساريين لمدرسة فرانكفورت في السبعينيات».
يذكر الباحث أن مدرسة البحوث الاشتراكية أنشئت في فرانكفورت في العام 1923، وأضحت منارة للأفكار الاشتراكية ليس في ألمانيا فقط؛ بل امتد أثرها إلى أوروبا، ثم العالم فيما عرف بمدرسة فرانكفورت للفكر الاشتراكي حتى وصول النازيين إلى الحكم، حيث اضطر روادها إلى التشتت في العالم وخصوصاً أميركا. وعلى رغم عراقة مدرسة فرانكفورت فإن أدبيات روادها لم تعرف في مصر إلا في السبعينيات. ويعرض الباحث أهم كتب روادها، والتي ترجمت إلى العربية في بيروت والقاهرة من قبل مثقفين مصريين وعرب مثل أعمال هيربرت ماركوزه. العقل والثورة (1960) والإنسان ذي البعد الواحد (1966) والأنا والحضارة (1969) والثورة والثورة المضادة (1972)، وعرض لأهم المجلات التي كرست ملفات لفكر رواد مدرسة فرانكفورت، مثل «الهلال» و «الفكر المعاصر» و «عالم الفكر». وذكر أن من أهم من كتبوا وحللوا فكر مدرسة فرانكفورت رئيس تحرير «الفكر المعاصر» فؤاد زكريا، وحسن حنفي (قبل أن يتحول للفكر الإسلامي) ومحمود أمين العالم.
ذكر الباحث أن المثقفين المصريين تعاملوا مع فكر مدرسة فرانكفورت بشخصيات كثيرة، وخصوصاً أطروحات:
1 - محدودية العلم. 2 - المساواة ما بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي والنظام التوتالاراتي الميكانيكي الذي يؤدي بالإنسان إلى الاغتراب. 3 - الخلفية اليهودية لبعض روادها مثل ماركوزه، مما انعكس تعاطفاً مع إسرائيل والقضية اليهودية، وحرية الفن والأدب مقابل الرائج بالالتزام الأدبي. الورقة الثالثة لإدريس جيباري، طالب دكتوراه بالجامعة الأميركية في بيروت، بعنوان «رؤية الحركة الطلابية التونسية (4-1963) واليسار الأوروبي وقد ألقى فيها الضوء على الخلفيات الثقافية والايديولوجية للحركة الطلابية اليسارية التونسية في علاقاتها بالثقافة والايديولوجية اليسارية الأوروبية وخصوصاً الفرنسية، بما هناك من روابط قوية بين فرنسا وتونس، بما في ذلك الحقل الجامعي، من مختلف الاتجاهات الشيوعية والاشتراكية والماوية وغيرها، وهناك شخصيات ثقافية وأكاديمية فرنسية لها تأثير كبير على المجتمع الأكاديمي في تونس مثل ميشيل فوكو الذي درس في تونس خلال (68-1966) وأندرية مارلو الذي زار الصين، وكتب بإعجاب عنها، كما كان للصحافة الفرنسية تأثير كبير مثل «اللوموند» و «جان أفريك» التي فتحت الملفات التحريفية السوفياتية، وعلى الصعيد المحلي فقد كان لمجلة «آفاق اليسارية» تأثير كبير على المجتمع الجامعي.
ومن الحوادث المهمة هزيمة 1967 حيث جرت احتجاجات غاضبة احتجاجاً على العجز العربي والتواطؤ الرسمي، وقد سبقتها دعوة الحبيب بورقيبة للصلح مع إسرائيل والاعتراف بها. وسرد الباحث وقائع من المقاومة الطلابية للاستبداد، وأسهمت الاعتقالات والسجن المطول الذي شمل جيلين من التونسيين في تجذير أفكارهم بحيث استبدل شعار اليسار المطرقة والمنجل بالبندقية والمنجل. وقد تراجع المد اليساري مع منتصف السبعينيات مع توجه النظام لقمع الإسلاميين، وانعكاساً لتراجع اليسار على النطاق الإقليمي والدولي.
الورقة الثالثة قدمها إلكسندر فلورس بعنوان «التعامل مع الانحدار- اليسار العربي ورؤيتهم لليسار الأوروبي»، طرح الباحث في ورقته انعكاسات هزيمة 1967 عربياً وخصوصاً على المشرق العربي، وأحد نتائجها التحول نحو اليسار في أوساط التيار القومي والإسلامي؛ بل وتبني الماركسية لدى تنظيمات يسارية انشقت من التيار القومي، وشخصيات في التيار الإسلامي، وقد طرحت في أولويات أهدافهم العدالة الاجتماعية (الاشتراكية) والمحتوى التقدمي للوحدة العربية، ودعم كفاح الشعب الفلسطيني، والتضامن مع نضالات العالم الثالث، وانتهاج الثورة والكفاح المسلح كطريق لتحقيق التغيير الجذري، وتختصر شعاراتها «ضد الإمبريالية ضد الصهيونية ضد الرجعية العربية» وكان لذلك تأثيرات على الأحزاب الشيوعية التقليدية بحيث أضحت متحمسة للوحدة العربية، ومؤيدة للكفاح المسلح بحيث تشكلت قوات الأنصار من الشيوعيين للمشاركة في كفاح الفلسطينيين.
وهذا التحول شمل أيضاً فصائل الثورة الفلسطينية، بما فيها «فتح» كبرى الفصائل، حيث برز فيها اتجاه يساري، وقيادات يسارية مثل ناجي علوش. لكننا سنرى لاحقاً أن بعض هؤلاء مثل منير شفيق (المسيحي العلماني) يرتد للتنظير بأن الإسلام هو النظرية الجامعة المانعة، وأه يتوجب تجميد الصراع الطبقي في ظل الصراع ضد الصهيونية وحليفتها الإمبريالية، وهذا ما خلق الأرضية لاحقاً للإسلاميين الجهاديين. وقد أسهمت عده تطورات في هذه الردة عربياً وعالمياً، وفي مقدمة ذلك الهزائم المتلاحقة للثورة الفلسطينية التي كانت تشكل رافعة للثورات العربية، والتحول الهائل في مصر إثر موت عبدالناصر، واستثمار السادات لنصر أكتوبر للمصالحة مع إسرائيل والتحالف مع الغرب، وإطلاق العنان للإخوان المسلمين، وصعود نجم الدول النفطة الخليجية المحافظة إثر ارتفاع أسعار النفط في العام 1973، وتأثيراتها الدينية والايديولوجية المحافظة، وبالنسبة للفلسطينيين فقد تخلوا عن تحرير فلسطين وقبلوا مبدأ الدولتين على رغم أن ذلك لم يتحقق وأضحوا ضحايا اتفاق أوسلو. وقد انتقد مفكرون يساريون مثل مكسيم رودنسون انحطاط ماركسيين عرب في تبريرهم لأنظمة الاستبداد العربية، بل والدخول في تحالفات وجبهات منها كما في مصر والعراق وسورية مثلاً. وقد ولد الاستبداد العربي وقمع اليساريين لجوء الكثير منهم إلى دول الغرب خصوصاً فرنسا وبريطانيا، حيث أنشأ بعضهم تنظيمات يسارية في المنفى، وصدرت في باريس مجلة الاشتراكية في الشرق الأوسط مثلًا. كما نرى هذا في تراجع مفكرين يساريين مثل طارق البشري وخالد محمد خالد وأنور عبدالملك نحو اليمين. وقد جرت في نهاية الجلسة مناقشة مستفيضة للأوراق الثلاث أسهمت في إغنائها.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5236 - الجمعة 06 يناير 2017م الموافق 08 ربيع الثاني 1438هـ