السلام ثقافة شُيدت على منظومتها القيمية ومبادئها الحضارة العالمية، وتعزّز بفعلها واقع الثقافات العالمية للمجتمعات البشرية على اختلاف مكوناتها، وصار التبادل المعرفي مؤشراً في تنامي روح التمازج والتعايش بين مختلف الأقوام والشعوب والأمم المتباينة في مقومها الثقافي والاجتماعي. ويتفق الجميع على أن اﻻختلاف في المواقف والرؤى والتعدد والتباين الثقافي مسألة إيجابية في معادلة التطور البشري، وتعزز واقع التوازن في المنظومة المجتمعية للتجمعات البشرية، وتساهم في الثراء المعرفي والثقافي والمعلوماتي والفكري الذي يفضي إلى تسارع وتائر التطور العلمي، وتعزز مقومات الشراكة في إنجاز أهداف مشاريع التنمية المستدامة. وعلى النقيض من ذلك يتسبب الخلاف في بروز المخاطر الإنسانية والإخلال بواقع الأمن الاجتماعي، ذلك ما تؤكده الدﻻئل التاريخية في مسيرة التطور الحضاري للمجتمعات البشرية.
الخطر المأساوي المدمر لثوابت ثقافة السلام يتمثل في الحروب الشاملة في عملياتها العسكرية، وفي وسائلها التدميرية وكذلك في الممارسات والسياسات التي لا تراعي قضايا الحق الاجتماعي والإنساني، وتتسبب في تفتيت المقوم الثقافي، وقيم الموروث الاجتماعي لثقافة السلام، وتؤدي إلى تهتك الكيان المجتمعي، وانهيار ثوابت التوافق والتسامح الاجتماعي الذي يعد مقوماً رئيساً في منظومة ثقافة السلام، ويتسبب فقدان وجوده في منظومة العلاقة الاجتماعية، الإخلال بواقع حالة السلم الاجتماعي، وحدوث النزاعات التي تصل إلى طريق مسدود ويصعب في الغالب حلها نتيجة غياب الحكمة والتمسك بثوابت الأنا، إلى جانب التمسك بثوابت وهمية، وغير مفيدة في تغيير الحالة الاجتماعية، ولا تجسد في محصلتها المصالح المجتمعية، ما يتسبب في استدامة النزاع وتبعاته المأساوية على حياة ومعيشة وأمن المجتمع.
وفي سياق معالجته لمخاطر هذه الحالات يُبيّن الدكتور كامل أبو جابر في كتاب «الكلفة البشريّة للنزاعات» الصادر عن منتدى الفكر العربي (2000) أن «النزاع غير المحلول يترك غيمة سوداء، ونقطة متحجرة في الداخل، وعلى مستوى الأفراد والجماعات والأمم. وقد تفجر في هذا العالم نحو 160 نزاعاً مسلحاً منذ العام 1945. واعتباراً من العام 1993 كان هنالك نحو 40 نزاعاً نشطاً أو على وشك الانفجار. وهناك بعض التقديرات لكلفة ذلك حيث قتل نحو 7.2 ملايين جندي، وقتل ما يتراوح بين 33 إلى 44 مليون مدني، هذا غير الجرحى، وعمليات الاغتصاب، والطرد، والمرض، والفقر. وقد شهدت السنوات الأخيرة لوحدها إنفاق نحو تريليون دولار سنوياً على الأمور العسكرية». وبمقاربة ما جرى تبيانه بشأن الكلفة البشرية للنزاعات مع واقع ما نشهده في الحروب الحديثة الدائرة رحاها، من الطبيعي أن تصدمنا محصلة الكلفة البشرية المضاعفة للنزاعات، ومظاهر المأساة المخزية للأفعال الإجرامية في الحروب الحديثة.
الواقع الملموس في ما شهدته وتشهده منطقتنا من حوادث، يشير إلى البعد المأساوي لـ»ثقافة الحرب» على واقع التعايش السلمي والثقافي، والأمن البيئي والإنساني للمجتمعات، نتيجة الإخلال بثوابت مبادئ ثقافة السلام. وبالعودة إلى ما شهدته منطقتنا من حوادث في المرحلة الأخيرة من القرن الماضي، يمكن أن نتبيّن البعد التدميري لثقافة الصراع والنزاعات على الواقع البيئي والإنساني، وما تركته من آثار سلبية على ثقافة التعايش السلمي والاجتماعي والتبادل الثقافي، وتراجع العلاقات السياسية القائمة بين دول المنطقة، وما تركه ذلك آثار سلبية على علاقات الدول في المجال الثقافي، وتبادل الخبرات والمعلومات العلمية والبيانات البيئية.
قراءة معطيات حالة الحرب التي شهدتها المنطقة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وبداية القرن الحالي، يمكن استدراك حقائق الوقائع المرة في إحداثياتها، وتُمثل في جوهر مضامينها دروساً ينبغي اﻻستفادة منها في بناء خريطة طريق واعية، يمكن أن تساهم في تأهيل مفاهيمنا في شأن العلاقة مع ثقافة السلام، ومبدأ التعايش السلمي والاجتماعي. وتشير بيانات تلك الحوادث إلى السلوك الهمجي في إدارة عملية الصراع والنزاع، الذي تسبب في إحداث كارثة شاملة الأضرار البيئية والإنسانية نتيجة تلويث الغلاف الجوي بأدخنة حرائق آبار النفط الكويتية، وتلويث البيئة البحرية، وتدمير مكونها الحيوي، والإخلال بتوازنها الطبيعي نتيجة ضخ كميات كبيرة من النفط الخام في مياه حوض الخليج العربي، إلى جانب تلويث المحيط البيئي للإنسان بالمواد الخطيرة الشاملة الأضرار والدائمة البقاء في أثر أضرارها على صحة الإنسان والبيئة، والتي تسببت في ما هو حاصل من أضرار صحية وتشوهات خلقية في المواليد الحديثة وانتشار حاﻻت الإصابة بالأمراض السرطانية.
الصورة المقابلة لواقع الحوادث في منطقتنا التي هي في تعارض كلي، وأكثر خطراً ومأساوية على مبادئ ثقافة السلام والأمن اﻻجتماعي، الحوادث المأسوية الماثلة أمامنا في المنطقة، إذ تسببت في تهتك مكونات منظومة الكيان المجتمعي، وانهيار مقومات ثقافة التعايش اﻻجتماعي، وتعميم ثقافة التشرذم والتفكك الطائفي والإرهاب الدموي، وتكوين جيش من اللاجئين، والتسبب في تدمير وتدهور الموارد الحيوية والطبيعية، والإخلال بمنظومة الأمن اﻻجتماعي.
المجتمع الدولي أدرك مبكراً أهمية ثقافة السلام في تطور الحضارة الإنسانية، واﻻرتقاء بمفاهيم الحكمة والعقلانية المؤسسة في بعدها اﻻستراتيجي لبناء مقومات التعايش السلمي بين مختلف الشعوب والأمم، لذلك اعتمد منظومة من المبادئ التي تجسدت في قواعد اﻻتفاقيات الدولية ذات المبادئ التوافقية المتمثلة في المواثيق والإعلانات الدولية في الشأن اﻻجتماعي والإنساني والبيئي. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مبادئ إعلانات القمم والمؤتمرات البيئية والتنمية المستدامة، ودون أن يجري استعراض مفصل لتلك الوثائق يمكن الإشارة إلى وثيقة إعلان «ريو» بشأن البيئة والتنمية لعام 1992 للدلالة على استراتيجية المجتمع الدولي بشأن «ثقافة السلام»، إذ يجري التأكيد في المبدأ (24) على أن الحروب بحكم طبيعتها تدمر التنمية المستدامة، «ولذلك يجب أن تحترم الدول القانون الدولي الذي يوفر الحماية للبيئة وقت النزاعات المسلحة، وأن تتعاون في زيادة تطويره عند اللزوم». ويجري التشديد في المبدأ (25) على أن «السلم والتنمية وحماية البيئة أمور مترابطة لا تتجزأ».
إن حقيقة ما يجب أن يقال في سياق قراءة ذلك الواقع، إنه على رغم وجود الظروف غير السوية التي تؤثر سلباً في واقع تجسيد «ثقافة السلام»، إلا أن هزيمة «ثقافة الحرب» واقع حتمي، وذلك يمثل قوة فعلية في تفعيل جهود العمل الجاد لتقويم مسارات التغيير، وتأكيد ما هو ضروري أن يسود، إذ أن تعميم ثقافة السلام صار مطلباً استراتيجياً للخروج من الأزمة القائمة، وتمكين مجتمعاتنا للنهوض بمقومها الثقافي والاجتماعي، ومشاركة المجتمعات المتحضرة في إنجاز ما جرى الاتفاق عليه في خريطة أهداف التنمية المستدامة بحلول العام 2030.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 5235 - الخميس 05 يناير 2017م الموافق 07 ربيع الثاني 1438هـ