العدد 42 - الخميس 17 أكتوبر 2002م الموافق 10 شعبان 1423هـ

ثوابت الأمة ومشكلة الاستبداد

عمران سلمان comments [at] alwasatnews.com

.

مشكلة الاستبداد في البيئة العربية أنها جزء من القيم والثقافة والتربية، وليس أحد مظاهر السياسة فيها فحسب. وهو يحتل بصورة غير مدركة مساحة كبيرة في اللاوعي، تظهر على هيئة تصرفات سلوكية وأفعال متنوعة، بدءا من مؤسسة المنزل والمدرسة وانتهاء بمؤسسة الحكم.

ولن يفيد أن نقتطع جزءا من هنا أو جزءا من هناك، كي نرمي عليه وحوله تركة الاستبداد الثقيلة، وإنما من الواجب أن ننظر إلى هذه التركة ككل متكامل وأن نواجهها على جميع المستويات وضمن مختلف مؤسسات المجتمع. وهذا جهد كبير في هذا المقال ليس مخصصا من أجله.

غير أنني انتهز هذه الفرصة كي اثير أحد جوانب الاستبداد وربما أكثرها مدعاة للجدل، ألا وهو الجانب المتعلق بما بات يعرف بالثوابت أو القضايا الكبرى أو ثوابت الأمة... إلى غير ذلك من مسميات.

يحدث كثيرا وربما بصورة دائمة أن يشهر بعضهم (فردا كان أم جماعة) سيف هذه الثوابت في وجه المختلفين معه في الرأي. ويحدث أحيانا أن ينجح إنسان ما بالافلات من قبضة «ثوابت الأمة» فيعمل قلمه أو مشرطه فيها نقدا وتفكيكا. لكنه إذ يفعل هذا فهو يغامر بأنه يصبح في نظر منتقديه خارجا على الاجماع.

وبالنسبة لمتعهدي «ثوابت الأمة» فان كل نقاش أو تفكير أو بحث، ينبغي أن يظل من دون سقف هذه الثوابت، والا يقترب منها قليلا أو كثيرا. بينما يسمح له بما دون ذلك. أي بما يسهم في ترسيخ هذه الثوابت وتثبيتها، أو فليكن الصمت الذي هو من ذهب.

فما قصة هذه الثوابت، وكيف تتعين ومن يحددها؟

بالنسبة للانسان العادي قد يعتبر ثوابت كل ما له علاقة بالدين أو الأخلاق مثلا. أما بالنسبة للانسان المسيس فهي تمتد بالإضافة إلى ذلك كي تشمل قضايا أوسع، مثل الموقف من الهوية، الموقف من الآخر الحضاري أو السياسي... الخ.

وهذا أمر يمكن تفهمه بالطبع. فمن حق كل إنسان أن يتخذ لنفسه ثوابت يدافع عنها. غير أن المشكلة هي أن هذه الثوابت، تعامل دائما في العقلية العربية بصيغة الجمع. أي أن فردا أو جماعة يمكنها مثلا أن تحدد (في خلوة حزبية أو تجمهر سياسي أو في بيان أو مقال سياسي) ثوابت باقي الناس وتدعوهم للالتزام بها جميعا على اعتبارها ثوابت الأمة، والويل لمن خالفها.

فالفرد (وينطبق ذلك أيضا على بعض الجماعات) لا يقول هنا مثلا إن هذه ثوابتي، من شاء أن يلتزم بها فمرحبا ومن شاء أن يعرض عنها فله ذلك. وإنما يقول هذه ثوابت الأمة.

وبالطبع حين يسمع الانسان هذه العبارة فانه يصبح أمام خيارين. إما أن يرضخ لمحدثه ويوافقه على ما يريد وإما أنه يصبح خارجا على الأمة وثوابتها.

وهذا نوع من الاستبداد، ولكنه استبداد عميق ومركب. وللأسف فانه غير ملاحظ في الكثير من الأحيان. إنه من جهة يضع سقفا للنشاط الفكري والانساني يستحيل تجاوزه، كما يمنح ممارسيه الحق في إ قامة حدوده وتحديد طبيعته، وبصورة تقطع الطريق على أي إمكان للمساءلة أو النقد.

ومن الجهة الأخرى فان هذا الاستبداد يحظى بالقبول والتسليم به من دون مناقشة من جانب غالبية الناس، الذين تعودوا أن يذيبوا انفسهم ويلغوا تفكيرهم في « ثوابت الامة» ، وهو من الجهة الثالثة يتحول إلى سلاح ماض في يد من يستخدمه ضد معارضيه والمخالفين له في الرأي.

غير أن الملفت في الوقت نفسه أنه في التطبيق العلمي أو في حياة الناس العادية، لا نرى هذه الصرامة أو الدقة في تحديد « الثوابت» التي يجري الحديث عنها. بل أنك لترى كل شخص أو مجموعة أو فئة اجتماعية تتصرف من وحي ثوابتها الخاصة بها، بصورة يستعصي معها تصور وجود ثوابت جماعية أو موحدة.

فالأنظمة السياسية مثلا تعتبر أن ثوابتها هي عدم منازعتها على السلطة أو معارضتها بطريقة تهدد وجودها أو مصالحها، ولا فرق عندها إن جاءت هذه المعارضة من جانب المتدينين أو العلمانيين.

وفئات التجار أو رجال الأعمال أو الأثرياء عموما، تعتبر أن ثرواتها هي عدم الاضرار بمصلحتها أو تعطيل تجارتها أو التسبب بخسارتها، ولا فرق بالنسبة لها من أين يأتي هؤلاء المستببون أو إلى أي دين أو جنسية ينتسبون.

وكذلك الأمر مع الفئات الاجتماعية الأخرى. بل لعلي أذهب أبعد من ذلك، فأقول إنه فيما خص التيارات السياسية والفكرية التي عرفتها الساحة العربية، فان تيار القوميين كان يعتبر أن ثوابته هي الوحدة العربية التي يجب الا تمس، في حين أن التيار الماركسي كان يعتبر الاشتراكية من ثوابته، وكذلك الأمر مع الليبراليين الذين يعتبرون الملكية الخاصة هي من أهم ثوابتهم.

وهكذا فان كلا من هذه الفئات أو الجماعات تلجأ إلى إشهار سلاح « ثوابت الأمة» في وجه معارضيها حينما تتعرض مصالحها للخطر، وهي تتحدث عن الأمة بينما هي تقصد نفسها.

والمثير أن هذه الثوابت تتغير بتغير مواقع هذه الفئات في السلم الاجتماعي وبحسب قربها أو بعدها من السلطة والنفوذ. فهي تتخذ أشكالا مختلفة قد تكون سياسية أو دينية أو ثقافية أو اجتماعية.

وبالنتيجة فان هذه الفئات بدلا من أن تستخدم أدواتها وحججها المباشرة التي تعبر عن حقيقة وضعها ومصالحها، فإنها تلجأ إلى «ثوابت الأمة» تطلب منها الحماية والمنافحة، فتتحول هذه الثوابت في واقع الأمر إلى أداة للاستبداد الفردي والجماعي.

إننا لسنا هنا بصدد انتقاد الثوابت (أيا كانت) أو المتمسكين بها، فمن حق كل إنسان أن تكون له ثوابته الخاصة التي يعتز بها، كما أن انشداد الانسان إلى منظومة من الثوابت و المفاهيم الجماعية أمر طبيعي ومفهوم، سيما في ظل الحاجة إلى الشعور بالامان والاتزان النفسي والثقافي والتناغم والانسجام مع الجماعة البشرية. وإنما انتقادنا موجه إلى توظيف هذه الثوابت بصورة تجعلها أقرب إلى أحزمة الحديد والاسمنت التي تمنع وصول الماء والهواء إلى الانسان.

ما ننتقده هو أن تتحول هذه الثوابت إلى حجج وذرائع لقمع كل حرية رأي أو تفكير، وبحيث تكون كالسيف المسلط الذي لا يفلت منه أحد.

لأنه في نهاية المطاف فإن هؤلاء الذين يستخدمون «الثوابت» ليسوا أكثر من بشر لا يختلفون عن غيرهم في شيء ولا يزيدونهم قيمة، لكنهم مع ذلك يرمون إلى اصطناع امتيازات وحقوق غير موجودة، يبررون بها استبدادهم. وهذا ما لا ينبغي السماح لهم بالنجاح فيه أبدا

العدد 42 - الخميس 17 أكتوبر 2002م الموافق 10 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً