نقاشات مطولة تثار في بعض المجالس والمنتديات الثقافية والتعليمية والاجتماعية بين وقت وآخر، بشأن المرتكزات والأسس والدعائم الرئيسية التي تساهم بشكل مباشر في الحفاظ على ثقافة وأخلاق الوطن، وتساعد بقوة في ترسيخ العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أبناء الوطن، قد يحدث اختلافات كثيرة في مفهومها وماهيتها ومدى تأثيرها وحجمها ومستوى أهميتها، الوطنية والإنسانية والاجتماعية والتنموية والاقتصادية والأمنية، وقد نجد البعض القليل جدا في مجتمعاتنا يختلفون في نسبة أهميتها في تحصين المجتمع من الانزلاقات والمنعطفات والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية.
وفي الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية نجدها تركز على 3 أسس رئيسية، وهي: الأسرة والتعليم والقدوة ، فلا أحد يختلف في أن الأسرة الواعية ومحورها الأم والأب لها القدرة على المساهمة الفاعلة في الحفاظ على الوطن من كل الأخطار الفكرية والثقافية والأمنية، التي قد تطرأ عليها في أي وقت، فالأسرة التي تعطي قيمة حقيقية لمكانة الأم، وجعلها محورا رئيسيا في تحصين الأبناء (الأولاد والبنات) من أي انجرافات أخلاقية وسلوكية وثقافية، ما لا شك فيه سيكون لها شأن كبير، في الاستقرار النفسي والاطمئنان المعنوي والأمن والسلام وقبول الآخر.
الأم الواعية إذا ما أعطيت حقوقها المدنية والسياسية كاملة غير منقوصة، تستطيع بحنانها وعاطفتها وفطنتها وثقافتها ووعيها وفكرها النير أن يكون لها الدور الكبير في تقوية وترسيخ الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والوطنية الإيجابية في محيط أسرتها وفي مجتمعها، وتكون قادرة على حمايتهم من الثقافات والأفكار الملوثة وتداعياتها الخطيرة، وبإمكانها التصدي لكل الأفكار والثقافات التي تشيع الكراهية والأحقاد والبغضاء في أوساط المجتمع، وهي التي تقوي الركيزة الثانية ونقصد التعليم، الذي إذا ما صلح فإنه يصلح المجتمع كله في مختلف اتجاهاته، وإذا ما فسد يفسد كل شيء فيه، فهو كما مثله أحد المثقفين العرب اللامعين، حيث قال: إن التعليم كالمصعد الذي تتمكن البلدان والشعوب أن ترتقي به بنفسها إلى أعلى الدرجات، ليس عقول الشعوب الدول التي تقدمت علميا وتكنولوجيا وتقنيا وطبيا أفضل وأكثر استيعابا من عقول الشعوب العربية والإسلامية، إن السبب المهم الذي جعلهم في مقدمة الأمم، هو جعل التعليم في مقدمة أولوياتها الإستراتيجية، ولم تجامل ولم تحاب على حساب التعليم، وبذلت من أجل تطويره وتنميته الجهود الكبيرة ورصدت له الميزانيات الكبيرة ولم تبخل عليه بكل غال ونفيس، ولهذا استطاعت بعد سنوات قليلة تأهيل أعداد كبيرة من المتخصصين في المجالين التربوي والتعليمي؛ العلمي والمهني والتكنولوجي والتقني وفي مختلف المجالات الطبية، ولديها مشروعات تربوية وتعليمية رائدة ومتكاملة الأركان، وبفضل خططها التعليمية المحكمة استطاعت التعرف مبكرا على ميول وإمكانات وقدرات طلابها وطالباتها التعليمية أو المهنية، ولم يخطر ببالها أن تستثني أحدا عند توزيعها البعثات والرغبات الدراسية، ولم يفكر أحد فيها حرمان أي طالب متفوق من تحقيق رغباته الدراسية التي يستحقها.
نجد في اليابان تفرض في كل المراحل التعليمية برنامجا أخلاقيا وإنسانيا عالي الجودة على جميع طلبتها وطالباتها، يتعلمون من خلاله كيفية التعامل مع الآخرين، والمعاني الأخلاقية والإنسانية الراقية، كالعدل والمساواة والإنصاف، وعدم بخس حق أحد من مواطنيها في التعليم والتوظيف، وفي الحقوق الإنسانية والعيش الكريم، وكيف يحافظون على كرامة وعزة كل إنسان، وينمون في الطالب والطالبة روح المبادرة والإخلاص والتفاني ليكونا في المستقبل فاعلين في خدمة مجتمعهما، ليكونا متمتعين بشخصية قوية، ومتميزين في معنوياتهما، ومتفوقين في تعليمهما الأكاديمي أو المهني، ويمتازان بالجودة العالية في أداء عملهما ونتاجهما، لعلمهما أن الإنسان الضعيف في شخصيته، يكون مترديا في معنوياته ونفسياته ونتاجاته العلمية والعملية، ولا يستطيع أن يكون عنصرا فاعلا في مختلف المجالات، العلمية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، ولديها نماذج رائدة في الجد والاجتهاد والإنتاج والمثابرة والتعامل الأخلاقي والإنساني مع مختلف مكونات البلد وتقديم أفضل الخدمات الصادقة لوطنها، وأوجدت القدوات المتمزة لكل من يريد تحقيق طموحات وطنهم أولا وطموحاته ثانيا، ولا نبالغ إذا ما قلنا أن جل البلدان المتقدمة تريد إيصال مواطنيها إلى المراكز المتقدمة علميا وعالميا، في كل المجالات، التقنية والتكنولوجية والمعمارية والاقتصادية والإنسانية، قد لا نجد مجتمعا في العالم، يريد لنفسه الرقي والرفعة في كل الاتجاهات العلمية والمهنية والأخلاقية والإنسانية من دون أن يكون له قدوة، في العطاء والتفاني والإخلاص والإبداع واحترام وتقدير الكفاءات والخبرات الوطنية، قولا وفعلا، ولم يتعامل بالرشوة والإكراميات و الواسطات والمحسوبيات والمجاملات والتمييز، وكل ما هو معطل للتنمية والتطوير في البلدان، ولم يعط فرصة واحدة للمتسلقين والمتملقين والمتزلفين والمؤدلجين والأنانيين، لعلمها أن من يتعامل بها لا يسعى إلا لتحقيق مصالحهم الشخصية على حساب مصالح وطنه.
لا أحد يشك في أن في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية طاقات بشرية متميزة، وبأعداد كبيرة، فلو يسنح لها المجال كاملا في بلدانها، وبعيدا عن كل العناوين المحبطة والمثبطة، تكون قادرة على تنمية وتطوير بلدانها، والدليل إذا ما انتقلت أو هاجرت إلى المجتمعات المتطورة علميا، فإنها تثبت وجودها وتميزها في مجالات كثيرة، فالمجتمعات المتقدمة التي تعمل بكل شفافية، وتمتلك مشروعا كبيرا متكاملا، ومراحل تنفيذه واضحة لها، تراها تعلم بعد 30 سنة إلى أين تريد أن تصل بأوطانها ومواطنيها، ولديها البدائل والحلول الناجعة في حال حدوث أي طارئ أثناء تنفيذها لمشروعاتها، فلهذا لا تجدها تشكو من الجمود في تفكيرها وممارساتها وثقافتها وتعليمها ونتاجاتها، وإنما تجدها دائما تعيش الحيوية والنشاط والتجديد في كل مناحي حياتها، العلمية والصناعية والتجارية والاقتصادية والإنسانية، ولا يجد الملل والسئم والكدر مكانا فيها.
إذا ما وضعت الدول العربية والإسلامية تقوية المرتكزات الأساسية للتطوير والنماء، الأسرة والتعليم والقدوة، من أولوياتها الإستراتيجية، حتما سيكون لها الشأن الكبير الذي تستحقه بين دول العالم، نأمل للأمتين العربية والإسلامية أن تكونا المثل الذي يحتذى بهما في المشاريع الإستراتيجية النوعية وفي نتاجاتها العلمية والمهنية، وفي تنفيذها لها، المجرد من كل المؤثرات النفسية والأيدلوجية والفئوية.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 5234 - الأربعاء 04 يناير 2017م الموافق 06 ربيع الثاني 1438هـ