أخذ العام الماضي (2016) معه آلاف البشر من فروا من مناطق وبؤر الصراعات والفقر وانعدام الفرص في العالم، الذي تحتفظ منطقتنا بالجزء الأكبر منها، وخاصة في السنوات الخمس الماضية.
البحر الأبيض المتوسط كان البوابة الكبرى لدخول أولئك المهاجرين إلى «الموت المعلن»، في كثير من الحالات، وكأنهم بذلك يذهبون إلى النوم الأبدي في البحر؛ إذ سُجِّلَت أكثر من 3740 حالة موت بين المهاجرين العام 2016 في وسط البحر الأبيض المتوسط؛ ليقترب ذلك من عدد الوفيات الذي سجَّله العام 2015 بأكمله. لكن الإحصاءات تلك سُجلت في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أي قبل شهرين من نهاية العام، ليسلِّم العام كشفاً بأكثر من 5000 آلاف مهاجر قضى غرقاً، قبل أن تلفظ الدقائق الأولى من العام 2017 أنفاسها. العام الذي لا يمكنه أن يقدِّم وعوداً بأن أعداد الذين سينامون موتاً في البحر سيتقلّصون، أو أن البشر سيذهبون إلى نوم طبيعي وبرفاهية فاقعة.
ما الذي يدفع بشراً إلى موت مُعلن لولا أن الذهاب إلى الموت أكثر منْجاة بالنسبة لهم، في ظل أوضاع غير إنسانية تسبَّبت فيها إما الحروب، وإما الصراعات الطائفية، وارتفاع معدلات الفقر، ومن ثم انعدام الفرص في مجتمعات ودول مُشطَّرة واقعاً، وإن بدت خلاف ذلك.
تلك الآلاف كان يمكن لها أن تستقر في أوطانها، وتسهم في تنميتها ورفاهيتها وتقدمها، على اختلاف إمكانات كل واحد منهم، لولا أن الأفق المسدود أمامهم دفع بهم دفعاً إلى ما وراء الحدود والمجهول أيضاً؛ إذ ليس من السهل على المرء أن يحمل ولو اليسير من اليقين من أنه سيجد الطريق إلى تحقيق أحلامه حتى والموت يتربص به، ليكون الشطر الأكبر من ذلك اليقين في صالح الموت الذي لا يعرف مجاملة، ولا يضع الظروف في الحسبان ساعة يقبض الأرواح، بأمر من خالقها وبارئها، لتغرق معها أحلامهم البسيطة.
المهاجرون الذين فرُّوا بحياتهم إلى الموت، يضعوننا في صورة «الحياة» التي كانوا يحيونها، إذا صح أن يطلق عليها مسمّى حياة أصلاً. ماذا يعني أن تفر من الجحيم إلى الموت؟ بحر يحاصرك بالموت من جهاته المفتوحة؟ يعني أن أملاً ما قد يبرز من ذلك الموت فيما هو منتفٍ في ظل الجحيم اليومي الذي لا نهايات تدل عليه.
خمس سنوات أو تزيد، حملت معها حروباً وصراعات دفعت شعوباً إلى الهجرة الجماعية، ولم يكن يتصور أحد في يوم من الأيام -على سبيل المثال- أن الشعب السوري سيسجِّل النسبة الأعلى بين أعداد المهاجرين والنازحين في الألفية الجديدة، بل وفي تاريخه الإنساني الضارب في القِدم. وباتت القارات جميعها، والأوروبية منها خاصة ملاذاً آمناً لهم من وطنهم والحدود التي تتاخمه، بعد ويلات جعلت من واحد من أكثر البلدان عراقة في وجوده الحضاري، إلى ما دون الأطلال بمراحل، ويكاد يعود إلى عصور ما قبل اكتشاف الطاقة. ولم يكن العراقيون والمصريون والليبيون وبعض الأفارقة بمعزل عن هذه المأساة التي تأخذ الإنسان إلى تيه مفتوح على الموت، أكثر من كونه مفتوحاً على الحياة وتحقيق البسيط من الأحلام.
لا تذهب هذه الكتابة إلى التشاؤم من العام الجديد، بقدر ما أن سلوك الذين يمسكون بمقاليد الأمور في العالم لا يوحي بشيء من التفاؤل، بدءاً من الدول التي اقتحمت دولنا وخرائطنا ومؤسساتنا باسم العولمة، وليس انتهاء ببعض الذين يديرون شئون دولهم وشعوبهم بسياسات لم يتحقق منها ما يوحي بأنها في الطريق إلى المستقبل، بقدر ما يوحي بالنكوص والتراجع وسوء الأوضاع على أكثر من مستوى.
لآلاف المهاجرين الذين فروا من حيواتهم إلى الموت، بحثاً عن أحلام لم يقتربوا من تحقيقها، فعاجلهم الموت نوماً أبدياً في البحر، لا نملك إلا أن ندعو لهم بالراحة والرحمة والسكينة، ولملايين الغرباء الذين كانوا أعزّة في أوطانهم، وهم يطوّحون في جهات الله بحثاً عن رد الاعتبار لإنسانيتهم، كي يحظوا بفرص أكبر لتعويض ما فاتهم من تحقيق البسيط من تلك الأحلام.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5234 - الأربعاء 04 يناير 2017م الموافق 06 ربيع الثاني 1438هـ
الطيبة الحنونة( سوسن دهنيم):
أدميت قلبي بكلماتك التي ذكرتيها عن أحلام المهاجرين التي لم تتحقق...
سيدتي: أنا من دولة الكويت..ولقد كتبت لك رسالة على الإيميل المذكور أعلى مقالتك
سيدتي الحنونة:
ربي يوفقك لقراءة شكواي