في حديث لا تنقصه الصراحة، وفي احدى المحطات الفضائية العربية اعتبر الصحافي محمد حسنين هيكل ما تقوم به الولايات المتحدة تجاه العراق إنما هو مجرد مصادفة تاريخية، وليس المستهدف من وراء ذلك لا العراق ولا الدول العربية الأخرى، والعراق لا يمثل سوى المكان الذي يتم فيه تحقيق الاهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي.
والمقصود من الحرب الاميركية الوشيكة على العراق هو توجيه رسالة إلى بعض الدول الطالعة والتي يمكن ان تكون المنافس لأميركا على الصعيد الكوني وهي تحديدا الصين، اليابان، ألمانيا، وروسيا بحسب رؤية هيكل.
لاشك في أن كلام هيكل فيه شيء من الصحة. لكن ان تكون الحرب الاميركية على العراق مجرد مصادفة تاريخية يكون العراق فيها محل النار فهذا غير صحيح، إذ بامكان أميركا ان توجه هذه الرسالة في مكان آخر، فلو رجعنا نصف قرن إلى الوراء لوجدنا ان السياسية الاميركية أخذت تتبوأ الصدارة مكان البلدين الاستعماريين - فرنسا وبريطانيا - باعتبار ان المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وخصوصا امدادات النفط تقع في هذه المنطقة الممتدة من المحيط غربا الى بحر عمان شرقا فهي منطقة جدُّ حيوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة منذ نصف قرن، حيوية من حيث الطاقة وحيوية من حيث كونها اسواقا للمنتجات الاميركية المدنية والعسكرية وبخصوص المنتجات الاخيرة حدث ولا حرج إذ الصرف «بالهبل». والمصالح الاميركية طوال الخمسين سنة الماضية في حال ازدياد وتوسع الأمر الذي يفسر ما نقوم به الآن من تحشيدات للحرب على العراق بهدف تثبيت مصالحها الآنية والبعيدة المدى - على الأقل خلال الخمسين سنة المقبلة - في هذه المنطقة الحيوية للعالم والولايات المتحدة، لكن هذه الاخيرة ترغب في الاستفراد بالمنطقة من دون منازع لتتمكن من خلال هذه المنطقة وبعد صوغها جيوبوليتيكيا من إعطاء الدروس لبعض الدول التي تستشعر منه خطرا حقيقيا او مفترضا كالصين او ألمانيا أو روسيا وربما الهند او الدول التي قد تطلع اليوم أو غدا.
ان ما تقوم به الولايات المتحدة في هذه المنطقة وإعلان الحرب على العراق هو وضع يدها على مقدرات المنطقة بدءا من أهم دولة - العراق - وإذا كان المستهدف ووفق خطة مدروسة سلفا وليس عن طريق المصادفة كما يرى هيكل هو العراق خلال المرحلة المتطورة فإن بقية دول المنطقة مستهدفة بالتأكيد من قبل الاستراتيجية الاميركية، إذ بمجرد سقوط العراق يصبح الطريق مفتوحا لمحاصرة إيران وسورية وتهميش المملكة العربية السعودية. ومن خلال مؤشرات كثيرة فإن ما تقوم به الولايات المتحدة ليس مصادفة تاريخية من دون ان يفكر المرء في الاهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة عالميا - بل هو عين التخطيط وتحقيق المصالح، ولكن انطلاقا من هذه المنطقة بعد صوغ حدودها وأنظمتها السياسية على حسب المقاييس الاميركية وتلبية للاحتياجات الاميركية في شئون الاقتصاد والطاقة. وما نشهده فهو البداية لكنه ليس النهاية. فالبقية تأتي والدول العربية المطلوبة لدى الإدارة الاميركية معروفة وضمن مخطط جهنمي.
إن استهداف العراق يأتي ضمن مخطط شامل وواسع ومتدرج، أما الان فقد حانت ساعة الحسم بالنسبة للإدارة الاميركية، او بشكل أصح بالنسبة للادارات الاميركية المتعاقبة خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي، ان خطة العراق الآن، هي لحظة إحكام السيطرة الاميركية على المنطقة.
وفي النتيجة إن وضعت الولايات المتحدة يدها على العراق من شأنه ان يسهل تنفيذ الاجندة الأخرى المعلنة وغير المعلنة، لذلك فإن قضية الديمقراطية التي ينشدها الاميركيون للعراق بعد اسقاط النظام القائم هي مجرد لعبة سياسية، والحقيقة هي ان الادارة الاميركية ستمكث في العراق طويلا وستقيم نظاما مواليا من صنيعتها بإدارة عسكرية فوقية اميركية، ليس من اجل إدارة الامور في هذا البلد المنكوب اصلا إنما لإدارة اوضاع المنطقة برمتها عن قرب وليس بـ «الريموت كنترول»، فهذا لا يفيد ضمن المخطط الاميركي لهذه البلاد المترامية الاطراف والغنية بالثروات من كل لون وصنف، وذلك لان الادارة المباشرة هي السبيل إلى تأكيد المصالح.
في الاخير إذا كان هيكل يعتقد أن ما يرسم للعراق هو مجرد مصادفة تاريخية فله كامل الحرية في أن يعتقد ذلك، اما الحقيقة التي لا جدال فيها فهي أن ما يدور عن العراق وحمى الحرب الاميركية التي تدفعها وتقف وراءها تكتلات المصالح الصناعية العسكرية في الدرجة الاولى من جهة وتكريس اسرائيل كأمر واقع ولها اليد الطولى في المنطقة ومن دون منازع وتبديد الميول الوحدوية العربية - إذا كانت هناك ميول هذه كلها عوامل ومؤشرات من شأنها أن تؤكد القصد والنية المبيتة لاجتياح العراق، ثم «تنظيم المنطقة» على الطريقة الاميركية وخدمة للمصالح الصهيونية. فالحرب المقبلة هي فعل تاريخي مقصود ومبيّت، لا مصادفة كما يعتقد هيكل
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ