لم يشهد التاريخ امبراطورية مهيمنة، مماثلة للولايات المتحدة. لم تستطع روما ان تهيمن على العالم كله، بل بقيت قارات كثيرة خارج دائرة نفوذها. أيضا، لم تستطع الامبراطورية الانجليزية وعلى رغم عدم غياب الشمس عن أراضيها ان توازي الامبراطورية الأميركية الحالية. تميّزت روما عن غيرها من الامبراطوريات، بأنها ابتكرت تركيبة عسكرية، وتكتيكات متقدمة على من سبقها، الأمر الذي جعلها حاسمة على أرض المعركة. باختصار كانت روما ظالمة، اعتمدت على الاكراه والبطش كاستراتيجية كبرى، متجاهلة الأبعاد الاقتصادية والسياسية.
أما الامبراطورية الانجليزية، فكانت سيدة البحار، الأمر الذي جعلها سيدة اليابسة. فهي سيطرت على الممرات البحرية الاستراتيجية، كقناة السويس، مضيق مالاكا وغيرهما. اعتمدت الاستراتيجية الانجليزية السياسة أيضا مبدأ «فرّق تسُد». أما البُعد المتعلق باستعمال القوة، فقد قام على تركيبة عسكرية أساسها: نخبة القيادة العسكرية من الانجليز. تسيطر هذه النخبة على عملية اتخاذ القرار، وعلى القيادة والسيطرة. أما اليد التنفيذية (العسكر)، فهي من السكان الأصليين للمستعمرات. كل هذا، والبحر والجو تقريبا تحت السيطرة الانجليزية. على رغم هذه العظمة، لم تكن الامبراطورية الانجليزية متفردة بمصير العالم، بل كانت هناك امبراطوريات أخرى منافسة، كفرنسا مثلا.
ما الجديد في الوضع الأميركي؟
الجديد في الوضع الأميركي، هو في شمولية الهيمنة الأميركية. فتكاد لا تخلو منطقة من العالم ليس لأميركا تأثير فيها وعليها. وهي قادرة على اتخاذ القرار السياسي، ودعمه بالقوة العسكرية، مع قدرة فائقة على التنفيذ في الوسائل، وذلك من دون الاضطرار للاستعانة بأحد، حتى ومن دون استشارة أحد. أما في البعد الاقتصادي، وهو الأهم، تبدو أميركا المهيمنة أيضا، ومن دونها لا يقوم الاقتصاد العالمي، ومن دونها تنهار الأسواق والبورصات، ومن دون الأسواق الأميركية يسقط الاقتصاد الصيني مثلا (100 مليار دولار حجم التبادل لصالح الصين). هي مركز الثقل الاقتصادي، وهي المسيطرة على الخيوط الأساسية.
من هنا، كانت الهدف الأول لـ «القاعدة». هي أيضا المثال الذي تحتذي به مجتمعاتنا. فالتكنولوجيا الرقمية مسيطرة على العالم، وهي من مصدر أميركي. والمفاهيم المتعلقة بكل ما يدور في فلك المال والأعمال، هي من مصدر أميركي أيضا. والأفلام التي نشاهدها ويشاهدها أطفالنا، أعطت نماذج للسلوك الاجتماعي، هي كلها أميركية. حتى في المجال الرياضي، أصبح مايكل جوردان مثالا لأولادنا. أميركا تستطيع مقاطعتنا في كل ما يزيد العرب من قوة، خصوصا في المجال العسكري. لكننا لا نستطيع مقاطعتها مثلا في مجال استيراد العتاد والآلات الطبية. أما المقاطعة في المجالات المتبقية، فهي لا تشكل إلا نسبة هزيلة جدا من قوتها الاقتصادية.
لماذا أميركا خطرة بعد 11 سبتبمر/ أيلول؟
«لا توجد سياسة خارجية في أميركا، كل شيء ينبع من الداخل». شعار كان يردد دائما في العالم. وفعلا، يبدو للمتابع للسلوك السياسي الأميركي خلال الانتخابات الرئاسية وغيرها، ان الموضوعات الداخلية تحتل مركز الصدارة. تستثنى «إسرائيل» من هذا الموضوع، لأنها الوحيدة التي تأخذ حيّزا مهما من الخطاب السياسي الانتخابي الأميركي. هل هذا الوضع لايزال قائما؟
بعد 11 سبتمبر، لم يعد هناك سياسة داخلية، وسياسة خارجية في أميركا. كل شيء أصبح داخليا. تماهى الداخل بالخارج. وتبدّل المسرح الأميركي، كما تبدلت نظرة الأميركيين إلى أنفسهم وإلى العالم. أصبح الأميركيون ينظرون إلى العالم، كما كان ينظر اليهود من داخل «الغيتو» إلى محيطهم. انه محيط معاد، لا يمكن الوثوق به، ولابد من الاحتياط والاستفسار الدائم لمجابهة المخاطر المتأتية عنه. ظهر هذا الأمر من خلال استطلاعات الرأي التي تؤيد الرئيس جورج بوش بخوض الحرب ضد «القاعدة» وعلى العراق.
بعد 11 سبتمبر، تقدمت السلطة التنفيذية في أميركا على غيرها من السلطات. ويمكننا القول الآن تقريبا، انه لا يوجد فصل للسلطات في الولايات المتحدة. وبالكاد نسمع بالقضاء المستقل، أو بالسلطة التشريعية، خصوصا الديمقراطيين. ويبدو في هذا الاطار، ان رغبة الرئيس الراحل توماس جفرسون، وأحد أهم الآباء المؤسسين قد تحققت بإعطاء السلطة التنفيذية سلطات من دون حدود. ويبدو هذا الوضع جديدا على أهم ديمقراطية في التاريخ. فبدل من ان يرتدع الرئيس عادة من السلطات الأخرى، ومن الشعب الأميركي قبل الذهاب إلى أية مغامرة عسكرية خارجية، نراه الآن مطمئنا لذلك، فهو اختصر كل السلطات، وأصبح «الشعب» معه. وهو أيضا قدم الأمن على الحرية. وزاد من السرية داخل البيت الأبيض. وأطلق عقيدة «الحرب الاستباقية»، قد تجعل أميركا في حرب مستمرة مع أعداء قد يكونوا وهميّين لتبدو حربه مثل حرب «دون كيشوت» الشهيرة. ويذكرنا هذا الوضع بكتاب آرثور شليسنجر جونيور تحت عنوان «الرئاسة الامبراطورية»، الذي تناول فيه السلطة التنفيذية في أميركا. من هنا منبع خطورة أميركا على العالم العربي - الإسلامي. بعد 11 سبتمبر، أصدرت أميركا قوانين داخلية متعددة، أهمها الباتريوت - اكت. لكن دراسة معمقة لهذا القانون، تجعلنا نتأكد من انه قانون يحل مكان القانون الدولي. فهو قانون يربط مباشرة الداخل الأميركي، بالمسرح العالمي. حتى انه يمكننا القول ان العالم أصبح مسرحا أميركيا داخليا. كما أصبح البوليس الأميركي (الاف. بي. آي) شرطة عالمية. فهو يقود التحقيقات في كل أرجاء العالم المشبوهة. وهو يطالب الحكومات الأخرى بالأشخاص المشبوهين والمدرجين على اللائحة الأميركية. وبسبب خوفها من 11 سبتمبر ثانية، راحت أميركا تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، الأمر الذي جعلها امبراطورية مهيمنة بالقوة على الآخرين في البعدين: الماكرو والميكرو.
تزامن 11 سبتمبر مع إدارة مقسومة بين الكثير من الصقور، والقليل القليل من الحمائم لا يتعدى عددهم الشخص الواحد. فالإدارة الحالية كلها من المدرسة الواقعية، التي تقوم على مبدأ موازين القوى، واستعمال القوة لتحقيق الأهداف القومية. لكنهم ينقسمون إلى فريقين (أي عناصر الإدارة). الأول، واقعي هجومي، يؤمن بالقوة وسيلة وحيدة لتحقيق الأهداف القومية. الثاني، واقعي يؤمن باستعمال القوة، لكن بعد استنفاذ كل الوسائل الأخرى، مؤمنا بقول الرئيس ت. روزفلت: «تكلم بطلف، واحمل عصا غليظة». أدى هذا الأمر إلى شلل ايديولوجي أميركي، نتج عنه أيضا، شلل على الصعيد السياسي، والذي بدوره سينعكس سلبا على الوضع العالمي ليرفع من نسبة الفوضى على المسرح الكوني. ويمكننا القول في هذا الاطار، ان هناك تحولا ايديولوجيا في العقل الأميركي. ففي السابق كان الموقف الأميركي من الحرب انها حالة شاذة. أما السلم، فهو الحالة الطبيعية، وذلك بعكس الايديولوجية الماركسية. الآن، تبدو الحرب الوضع الدائم في العقل الأميركي.
كذلك الأمر، لا يوجد سابقة في التاريخ الأميركي مماثلة لـ 11 سبتمبر تستطيع الإدارة الحالية أخذ الدروس والعبر منها للتعامل مع نتائجها، والخروج من الصدمة. من هنا، تجد الإدارة الأميركية صعوبة كبرى في إيجاد الخطاب السياسي الملائم، والاستراتيجيات العسكرية الكبرى للتعامل بشكل سليم مع المخاطر. فنرى الرئيس بوش مثلا يصنّف الدول ما بين شريرة وصالحة. كذلك نراه يهدد صدقية الأمم المتحدة في حال لم توافق على سياساته. وهو يطلب أيضا، وبعد ان اسقط الكثير من الاتفاقات الدولية، استثناء العسكر الأميركي من أحكام المحكمة الدولية لمحاكمة جرائم الحرب عبر اتفاقات جانبية مع الدول التي وقعت هذه الاتفاقات. إذن التخبط هو سيد الموقف، الأمر الذي يصدم الأصدقاء قبل الأعداء.
أطلق الكاتب الانجليزي بول جونسون في كتابه «تاريخ الشعب الأميركي» شعار «الهستيريا الأميركية». فهو وبعد ان درس التاريخ الأميركي لاحظ الآتي: مرّ الشعب الأميركي عند الأزمات بهستيريا جماعية. ففي فترة صعود أميركا لتصبح دولة عظمى، ابتعد الشعب عن الدين فكانت أول هستيريا دعيت اليقظة الكبرى. تلت هذه الهستيريا، الحملة ضد الساحرات حين قتلت الآلاف منهن من دون ذنب. في العام 1941، حصلت الهستيريا ضد اليابانيين بعد بيرل هاربور. في الخمسينات ضد الشيوعيين مع السيناتور جوزف ماكارثي. وأخيرا وليس آخرا، نعايش الآن الهستيريا ضد عدو غير منظور ولوقت غير محدد. تشعر أميركا بعد 11 سبتمبر، ان ليس لديها الصبر والوقت الكافيين لحل مشكلات النقاط الساخنة وخصوصا في المناطق الحيوية، من خلال الدبلوماسية. لذلك تلجأ هي إلى الفرض باستعمال القوة، حتى ولو كان الأمر يتعلق بنشر الديمقراطية. علما ان نشر الديمقراطية هو مسار طويل وليس قرارا سريعا. يندرج البلقان، والعراق في هذا الإطار. كذلك الأمر، تختلف أميركا عن حليفاتها من الدول في النظرة إلى مرحلة ما بعد سبتمبر بشكل جذري. فالأوروبيون مثلا، يعتبرون ان سبتمبر هو حادث مثل باقي الحوادث، لا يتطلب تعديلا جذريا في التركيبة العالمية، ويجب التعامل معه بحذر وحسم، لكن من ضمن المؤسسات الدولية. أما أميركا، فتعتبر انه يشكل نقطة التحول في التركيبة العالمية، ولابد من التعامل معه على هذا الأساس، ولابد من تعديل جذري في كل المفاهيم، ومن يرغب فأهلا وسهلا، وإلا فهو في الجانب الآخر. تضرب أميركا حاليا الأعداء بقوة عاتية، وتحاول احتواء الدول التي من الممكن ان تشكل خطرا عليها في المستقبل. لكنها تقلق الاصدقاء. فالردع لقوة من الدرجة الثانية كالصين مثلا، يتطلب تطمينا إلى جانب الردع. ما المقصود بالتطمين - حالة الصين؟ إذا أعلنت أميركا دعمها المطلق لتايوان. وإذ وعدت ببيعها احدث الاسلحة من الترسانة الاميركية وإذا كان خطاب الرئيس بوش يصنّف الصين منافسا استراتيجيا. وإذا وجدت أميركا عسكريا في الفترة التي تلت 11 سبتمبر حول الحدود الصينية. وإذا سعت أميركا إلى الغاء معاهدة الآي. بي. ام، وقررت بناء الدرع الصاروخي. وإذا كانت أميركا ترفع شعار حقوق الإنسان وتلوح به ضد الصين. وإذا كانت أميركا متفردة بمصير العالم متجاهلة المرجعيات الدولية. فما هو السلوك الصيني المتوقع بعد هذه الأنماط من السلوك الأميركي المعادي؟
يقول الخبراء ان التطمين هو جزء أساسي من الاستقرار في العالم. فعلى رغم الأهداف الأميركية في الشرق الأقصى، التي تعيها بعمق الصين. لا يجب على أميركا ان تقتل الصين من خلال خطابها السياسي، وسلوكها العسكري. فالصين تعتبر من الدول التي تؤمن بتعدد الأقطاب في النظام العالمي، ويعود هذا السبب إلى التاريخ الصيني الداخلي الذي تجلى في بعض الأوقات في حروب داخلية دموية. كذلك الأمر، تعتبر الصين دولة كبرى على الأقل في البعد الاقليمي. فهي مؤثرة جدا في محيطها، الذي يعتبر حيويا لأميركا. وهي قادرة بالتأكيد على تهديد الاستقرار في المنطقة، وهذا ما لا تريده أميركا. وقد تعمد الصين إذا ما حُشرت، إلى العمل على زيادة عدد الدول المارقة وذلك عبر تمرير تكنولوجيا الصواريخ البالستية مثلا. أو عبر تمرير التكنولوجيا النووية. وقد يؤدي السلوك الصيني هذا، إلى إقلاق أميركا لأنها ستصبح في وضع تقاتل فيه على عدة جبهات. باختصار، قد تتزعم الصين قيادة الدول المارقة، أو من ينضم إليها. وقد يؤدي هذا الأمر إلى تسريع عملية تغيير التركيبة العالمية، وبالتالي إلى تقليص الهيمنة الأميركية وإلى مزيد من الفوضى العالمية.
بسبب كل هذا تعتبر أميركا خطرة. فهي أطلقت حربا بحاجة إلى تعاون دولي بطريقة منفردة. وهي عدلت ايديولوجيتها بشكل جذري وبسرعة البرق. وهي كبّرت الأهداف إلى درجة يصعب تحقيقها. كل هذا وهي مركز ثقل العالم في مختلف المجالات تقريبا.
فإن سار العالم في الأجندة الأميركية، هو خاسر. وإذا ترك العالم أميركا تتفرد في تنفيذ أجندتها، هو خاسر أيضا. لذلك يبدو الوضع الحالي وكأن العالم يحاول تقليل الخسائر فقط. من هنا تبدو أميركا خطرة.
في الختام هناك قول الرئيس توماس جفرسون عن القوة الأميركية حين قال: «في يوم ليس ببعيد، سنهزّ العصا فوق رؤوس الجميع ليرتعد أقواهم. لكنني آمل ان تنمو حكمتنا، بالتوازي مع قوتنا. فكلما استعملناها أقل كانت أفعل»
العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ