صديقي الفنان اليمني حكيم العاقل خابرني يبارك لي ظهور أحد مشاريعي المؤجلة، معرض تحية إلى قاسم حداد ودروبه المضاءة بالمنارات، إلى الوجود.
قبل شكره... بادرته مباشرة كيف تحيا وأنت في صنعاء اليمن، صنعاء الجمال والجبال والناس والخضرة والثقافة والحضارة والشعر والموسيقى والعزف على العود تحديداً، والمقيال ( أماكن تعاطي القات الذي تشتهر به اليمن) وباب اليمن والناس الطيبين الكرماء بكل شيء وفي كل شيء.
كيف تحيا وأنت المهموم والمهووس بالنشاط الثقافي والتشكيلي خصوصاً، الذي أخذت على عاتقك نشر ثقافته في ربوع اليمن من جنوبه إلى وسطه وشرقه وغربه حتى عمق شماله.
صديقي... قلت، هل من أمل؟ في ظل الألم الذي يحيط بربوع بلاد العرب من لغته حتى جسده ومن شرقه إلى جنوبه ومن غربه حتى تخوم شماله، هل من سوانح تهب فضاء للرؤيا والتروّي؟ وهل من بحار تبقّت يمكن الرجوع إليها لتغسل ذنوب أرواحنا، لنكفّر بها عن أخطائنا وأهوائنا المُملّة والساذجة والتافهة في أحايين كثيرة؟ هل في السماء مكان نلوذ به من كل هذا الغيّ المحدق بنا مُذ حط الله بنا على أرضه وغطّانا بهواء سمائه وأصبحنا سراباً أو أسراب طير لا تحلّق في هذا الفضاء المر إلاّ لماما
صديقي حكيم: قل لي ماذا أنت فاعل في اليمن السعيد؟
يا عباس... يا عباس... ألوذ بالرسم من كل العواصم... الرسم عاصمي... عاصمنا.
خذ نفسا طويلاً طويلاً وتأمّل نفسك بلا رسم؟ هل سترى العالم؟ هل ستراه بذات الجمال الذي في مخيّلتك؟ وهل ستراه بالقلب ذاته المتشرّب بالألوان والخطوط والحب والحنان والجنون الجميل، وما تبقّى فيه من آيات ترتّل بها على بياض قماشك وورقك وما تيسّر من خام للرسم عليه في المرسم.. لتهتدي بها كقناديل ليل ساعة القهر... ساعة الظلام لئلا أقول الهلاك.
من بلاد القات.. من برقها... وأنينها وصرختها... من بُنّها وملحها وعقيقها... ومن قصائدها ومن رائحة زبيبها العطر ومن معمارها الغارق في التاريخ... من مرسمي أرى الكون اليماني، أراه بألواني وخطوطي، أراه بتلك العاطفة المتدفقة المتأجّجة وقت المحن والضيق والضنك تدعوني، تحرّضني على الذهاب إلى المرسم، أقاوم الحالك من الأيام وأسودها وقساوتها وفتنتها أيضاً، وأحاول استلال البياض من هذا السواد استلالًا حبًا وجمالاً وتطلعاً إلى الغد بقلب نابض بالبياض تزيّنه وجوه الناس، نساء وأطفالاً، شيبة وشباب، هذه الوجوه كلما تراكمت عليها الأيام ازدادت فتنة وسؤالاً وجمالاً وطهارة.
لا يمكنني لمس كل ذلك ولا الشعور به ولا تصوّره والعيش فيه بعمق وصدق ورؤيته رؤية فنان إنسان إلاّ من خلال الرسم، باللجوء إليه... الرسم ليس باعتباره ترفاً وتسلية وإضاعة وقت... الرسم بوصفه حباً ورؤى وموقفاً من نشر الجمال في الحياة... في كل مفاصلها... الجمال باعتباره خلاصاً وملاذاً. الرسم بوصفه فتنة.
ألم أقل لك يا صديقي الحياة في الرسم.