بداية، أستميح الشاعر والناقد الكبير أدونيس العذر لاستعارتي عنوان دراسته الفذّة، إذ لم أجد عنوانا أنسب منه لمقالتي، التي تلحّ عليّ ان أكتبها منذ ان عدت من البحرين بعد مشاركتي في دورة «ابن المقرّب العيوني»، الدورة الثامنة لجائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري.
فعلى أرضها بدأت علاقتي بابن المقرّب منذ أكثر من ربع قرن، وأنجزت اطروحتي للماجستير عنه، وعلى أرضها - شاء المولى تعالى - ان نحتفي هذا العام بابن المقرّب، وان يكون اللقاء ذروة اهتمام الأمة بالشاعر الكبير، وكأن جمهور الأكاديميين والمعنيين قد جاءوا إلى البحرين ليقدّموا إلى الشاعر اعتذارهم لما ناله من اهمال وإغفال، إذ كان مجهولا أو كالمجهول في الكثير من الأقطار العربية قبل ربع قرن من الزمن.
وشاءت إرادة الله ان أنهض بتحقيق ديوانه في صورته النهائية مشاركة مني في هذه الدورة.
وفي موازاة حدث لقائي الثاني بابن المقرّب، كان لقائي المدهش بالبحرين التي غادرتها لاستكمال دراستي في العام 1979. غادرتها وأنا توّاق إلى حنينها، أحسّها دائما مسافرة في دمي، مستوطنة وديان قلبي... فجسور المودّة ظلّت قائمة مع بعض أحبّتي فيها، على رغم طول الغياب.
مدهشٌ كان لقائي بها، كأني لم أغب عنها، فقد وجدتها كعهدي بها... وقد جلست على شواطئها الزمردية امرأة اسطورية، فكّت جدائلها، وتزيّنت، وضمّخت جيدها بطيبٍ أعشقه، ولا أخطئه، وبحثت عنه سرا في كل المدن. أول الأمر طاف بي الصحب الكرام على شوارعها الجديدة، وما فيها من فنادق ومجمعات تجارية ضخمة مبهرة، فداخلني شيء من الإحساس بالغربة، فقلت: أريد باب البحرين، وسوق الذهب والأقمشة، أريد شارع الزبارة، وميناء سلمان، وطريق مدينة عيسى، وعين عذاري، وطريق البديع، أريد مدرستيّ المنامة والحورة الثانويتين، أريد مسجد القضيبية، ومكتبة البلدية... قلت: «خذوني إلى لغتي»، فكان لي ما أردت. وهناك اشتعلت الذاكرة، وكأني أفتح قارورة عطر معتّقة، فهتفت: آه يا البحرين! مهما تغيّرت، وتطورت سيظل هذا القديم الثابت مدار حبّي وعشقي. في ساحة مدرسة المنامة الثانوية (سابقا) بالقضيبية التقطت صورة، ونظرت إلى مكتبي حيث كنت أجلس، جميلة كعهدي بها مثل سوسنة. وهناك مددت البصر إلى النخلتين اللتين أعهدهما على سورها الغربي، فدقّ قلبي بقوة، وتذكرت أصدقائي وأحبتي من أهل البحرين ممن لقيتهم في الدورة، أو خفوا للقائي في هذه الزيارة القصيرة، أمثال الإخوة (مع حفظ الألقاب): محمد السعد، وعبدالعزيز السمّاك، وعلي عبدالله خليفة، وعبدالجليل العريّض، وإبراهيم غلوم، وعلوي الهاشمي، ومحمد حسين شفاعة، والأختان: أمينة صالح، ومنى غزال. انهم مثل هذا النخيل أصالة وثباتا وجذورهم ضاربة عميقا في تربتها الطيبة. يمضي الزمان وهم قابضون على جمر القيم النبيلة: الوفاء، والمحبة، والشفافية. ثلاثون عاما لم تغيّر من جوهرهم، ولا من أصالة معدنهم.
أذكرهم جيدا كيف كانوا يتفانون في خدمة هذا الوطن بلا كلل. كانوا يعلمون ان البحرين صاحبة دور، وان عليهم ان يكرّسوه، ويطوّروه. فبفضل جهودهم وجهود المخلصين من أمثالهم يظل لمملكة البحرين تميزها. فللثابت على أرض البحرين هواي وحبي. ولتحولاتها الجديدة في ظل مليكها الشاب صاحب العظمة حمد بن عيسى آل خليفة - حفظه الله ورعاه - كل تقديري واحترامي، ودعاء صادق من أعماق الفؤاد ان أزورها قريبا وقد حققت مشروعها الإصلاحي، وما تحلم به وتطمح إليه من انجازات على طريق الديمقراطية والحياة الأفضل
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 40 - الثلثاء 15 أكتوبر 2002م الموافق 08 شعبان 1423هـ