العدد 40 - الثلثاء 15 أكتوبر 2002م الموافق 08 شعبان 1423هـ

هل يُحسم في «مشاكوس» أم في فلوريدا؟

مصير السودان:

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

يتزامن اجتماع مشاكوس في 14 أكتوبر/ تشرين الأول، أو يأتي إثر إجازة الكونغرس الأميركي لمشروع قانون جديد يقضي بفرض المزيد من العقوبات على حكومة السودان إذا لم تصل إلى اتفاق سلام في مشاكوس. وأسمى مشروع القانون «قانون السلام في السودان».

والعقوبات المتوقعة تشمل كل شيء، من حظر التصدير للنفط، وحظر شراء الأسلحة، وفتح ملفات «جرائم الحرب» و«الإبادة» أو التطهير العرقي، وحجب القروض التي تقدمها الهيئات والوكالات الدولية إلى السودان.

أجيز مشروع القانون بتاريخ 11 أكتوبر/ تشرين الاول 2002 مستكملا بذلك سلسلة من القوانين التي صدرت تباعا منذ العام 1997. غير أن «روح القانون» في هذه المرة يختلف عن كل المرات السابقة، لأنه «يستبق» فعلا حاسما يُراد أميركيا في السودان، وقد أعدت له واشنطن عدته وبمستوى لا يقل عما يُعد للعراق، وما سبق إعداده ليوغوسلافيا.

فخلفية القرار الأميركي تنطلق من تصنيف السودان في عداد «الدول الفاشلة» التي تتطلب «تدخلا حاسما» وبشتى الوسائل جنبا إلى جنب مع التدخل في حال «الدول المنهارة» كالصومال وأفغانستان. وهذه كلها مداخل في التفكير الاستراتيجي الأميركي الراهن.

ما أعلمه وأقدره

إن تشويه أوضاع السودان لن تتم في ضوء المطلوب أميركيا في مشاكوس، فتجربة التفاوض منذ الجولة الأولى التي صدر عنها «بروتوكول التفاهم» في 22 يوليو/ تموز من العام الجاري إلى اليوم، أقنعت أميركا تماما بمراوغة الطرفين: حكومة الإنقاذ الشمالية وحركة قرنق الجنوبية نظرا إلى تناقض أجندة الطرفين واستراتيجيتهما الصدامية، وليس مجرد اختلافهما، فما هو «تحت الطاولة» بالنسبة إلى الطرفين هو الأخطر، والأكبر ما يضعانه «فوق الطاولة». فقرنق يريد السودان «كله»، وحكومة الإنقاذ تريد الاستمرار في آحادية الهيمنة، أما أميركا فتريد - وبمنطق «الشراكة» وليس «الوساطة» - فرض «عولمتها» على سودان مستقر ومرتبط بها، وهذا تحديدا ما تهيئ أميركا له الآن في أهم مؤتمر مقبل تعقده الجامعات الأميركية الأساسية، ذات الصلة بصنع القرار الأميركي، في فلوريدا بتاريخ 14 و15 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فما هي أجندة مؤتمر كنفدرالية «القرن الإفريقي» ومجلس «تعاون دول البحر الأحمر»؟

مؤتمر فلوريدا

سيفتتح المؤتمر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، وبذلك يتم تأمين المظلة الدولية لما سيصدر من توصيات، ثم يليه وزير الخارجية الأميركي الجنرال كولن باول، ويلهيما الرجل الذي يهمه أمرنا كسودانيين ويهمنا أمره، وهو وولتر كانستاينر المشرف الحقيقي على مفاوضات مشاكوس بوصفه مساعدا لوزير الخارجية الأميركية للشئون الإفريقية، وهو الذي هرع من قبل إلى «نيروبي» - عاصمة كينيا - ليرسل من هناك بإنذاراته «المبطنة» إلى كل من حكومة الإنقاذ وحركة قرنق للعودة مجددا إلى طاولة المفاوضات بعد أن مضيا في خططهما للمجابهة العسكرية في توريت جنوبا وفي شرق السودان شمالا. وقد عادا إلى المفاوضات «كرها» لا «طوعا».

في المؤتمر، وعبر يومين، وفي جلستين، ومن خلال ثلاث ورش عمل متخصصة ستوضع معالم «كنفدرالية القرن الإفريقي» التي ستضم كلا من السودان وأثيوبيا وأرتريا وجيبوتي، وكذلك «كرها» أو «طوعاَ»، أما الصومال ـ حيث الدولة «المنهارة» بالمنطق الأميركي - فسيُؤتى به «كرها»، وبالذات بعد وصول طلائع القوات البرية الأميركية والإيطالية إلى جيبوتي إذ تتمركز هناك أصلا القوات الفرنسية.

وفي «موازاة» كنفدرالية القرن الإفريقي و«بالتداخل» معها - بوليتيكيا وجيوستراتيجيا - ستحدد معالم «مجلس تعاون دول البحر الأحمر» التي تتكون من المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن والصومال وجيبوتي وأرتريا وجمهورية مصر العربية والأردن. أما إسرائيل فسيُكتفى في التوصيات «بإمكان» عضويتها ولاحقا حين يكون القبول بها مهيأ.

أما الجامعات ذات الصلة بصنع القرار السياسي في واشنطن، على مستوى الجمهوريين والديمقراطيين معا، ومعظم ساسة أميركا إن لم يكن كلهم من خريجيها فهي هارفارد وجونزهوبكنز وميشيجان وهوارد وبرنستون وميسوري.

ولتكريس النجاح للصيغتين سيشارك «البنك الدولي» و«اليونسكو» و«منظمة الغذاء العالمي» و«برنامج التنمية العالمية» ومنظمات دولية و«خاصة» كثيرة أخرى.

أما المشرف المنسق للمؤتمر فهو جامعة جنوب فلوريدا (UniversityOfSouthFlorida).

وفي داخل المؤتمر - ولكن من بعد معرفة ما يتم التوصل إليه في مشاكوس - سيتم طرح «النظامين في دولة واحدة» بين شمال السودان وجنوبه، وهو المشروع الذي كتبنا عنه كثيرا وتبناه - على غير تواصل معنا أو إيحاء منا - «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن في فبراير/ شباط 2001، وبموجب أوراق ذلك المركز الأميركي تمت تسمية السناتور الأميركي جون دانفورث مبعوثا رئاسيا لتسوية أوضاع الحرب في السودان، في «الجنوب» وفي «جبال النوبا» أيضا.

وخلاصة الأمر هي: المنطقة قرب البحر الأحمر مقدمة على تطورات «جذرية» و«متزامنة». فهناك «مجلس تعاون دول البحر الأحمر» وبصيغة أقرب «لمجلس تعاون دول الخليج العربية». وهناك «كنفدرالية القرن الإفريقي». وهناك «نظامان في دولة واحدة» فيما يختص بالسودان. والمظلة في كل الأحوال «أميركية» و«أوروبية غربية». أما إسرائيل فليست في عجلة من أمرها، فالذي حصلت عليه من العرب دبلوماسيا واقتصاديا وسياسيا من تطبيع ـ أيا كان مستواه - بعد حرب الخليج الثانية العام 1990/ 1991 يمكنها أن تحصل عليه من مستوى مجلس تعاون دول البحر الأحمر وكنفدرالية القرن الإفريقي.

بل إن إسرائيل حددت تماما ما تريد في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، ليس الآن، ولكن منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948. بل وقبل عام واحد من تأسيسها. ففي العام 1947 مارست الزعامة الصهيونية ضغطا كبيرا على المسئولين الأميركيين بهدف إدخال منطقة «النقب» ضمن حدود إسرائيل، وذلك حينما زار حاييم وايزمان الرئيس هاري ترومان بتاريخ 18 مارس/ آذار 1947 وطلب منه القبول بإضافة «النقب» إلى الخريطة الإسرائيلية، بحكم أن النقب هي المدخل إلى إيلات على البحر الأحمر، ثم حين رفض الكونت فولك برنادوت ـ الدبلوماسي السويدي ووسيط الأمم المتحدة ـ مشروع الإلحاق تم اغتياله في 17 سبتمبر/ أيلول 1947 على يد عصابة «شتيرن».

وتبريرا لاحتلال النقب وإيلات أوضح ديفيد بن غوريون ما أسماه «باستراتيجية التوجه نحو الجنوب» حين أعلن أن ميناء إيلات على البحر الأحمر هو الأهم استراتيجيا لمستقبل إسرائيل من ميناء حيفا على البحر الأبيض المتوسط، ثم حض على إقامة المستوطنات على طول الطريق من بئر السبع شمالا وإلى إيلات جنوبا على رغم أوضاع البيئة والجغرافية الصعبة، ثم أعلن أن أمن إسرائيل يمكن أن يتلخص في جملة واحدة «كل شيء لابد أن يتجه صوب الجنوب». وقد بسط المؤلف الإسرائيلي ميشال بن زوهير تفاصيل أفكار بن غوريون هذه في كتابه «ديفيد بن غوريون - النبي المسلح!».

وبررت إسرائيل حربها مع مصر في العام 1967 بطلب مصر إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18 مايو/ أيار 1967 سحب قوات الطوارئ الدولية من مراكزها في خليج العقبة على البحر الأحمر وسيناء، ثم بعد أقل من شهر اندلعت الحرب.

ثم ومنذ وقت مبكر بدأت إسرائيل بإعداد الدراسات عن البحر الأحمر والقرن الإفريقي بالتعاون مع الجامعات الأميركية، وفي هذا الإطار تم التنسيق بين جامعة هارفارد الأميركية (مركز الشئون العالمية) ومكتب الدراسات في وزارة الخارجية الإسرائيلية منذ مطلع الستينات إذ أعدت الباحثة الإسرائيلية ـ من أصل مغربي - سعدية توفال أهم دراسة مرجعية حتى اليوم عن «الصومال» وعن «فدرالية القرن الإفريقي» العام 1963.

كما عقدت إسرائيل أهم «مؤتمر عالمي» عن القرن الإفريقي في جامعة «تل أبيب» - (الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والاجتماع) العام 1980. ومازال الباحثون الإسرائيليون يبذلون جهدهم للإطاحة بدراسات القرن الإفريقي والبحر الأحمر، ففي الندوة التي عقدت تحت عنوان: «المعضلات التاريخية للقرن الإفريقي والتحديات الراهنة» بتاريخ 20 فبراير العام 2001 في «المعهد الأثيوبي العالمي للسلام والتنمية» كان الخبير الاستراتيجي البروفيسور الإسرائيلي هجاي آيرلخ أحد أبرز المشاركين. وركز البروفيسور (آيرلخ) في ورقته ليس على مشكلات القرن الإفريقي فقط وتحدياته ولكن على علاقة هذا القرن الإفريقي بمصر أيضا وقضايا الاستغلال الأثيوبي لمياه النيل.

وتأتي ورقته مقدمة لكتابه «النهر والمجرى - مصر وأثيوبيا عبر التاريخ». وهناك أساتذة آخرون أبرزهم البروفيسور غبراييل المعني بالتطورات الدستورية والإدارية في السودان، ومن أهم كتبه «السودان تحت إدارة وبخت 1902/ 1916، وإشكاليات القومية والإسلام والشيوعية في السودان.

أما جامعة «ميشيجان» الأميركية والمشاركة حاليا في مؤتمر فلوريدا فقد سبق لها أن عقدت مؤتمرين عن قضايا القرن الإفريقي والبحر الأحمر، الأول في العام 1973 والثاني في 1994.

وأستطيع أن أوثق هنا أن عدد الأبحاث الصادرة عن جامعات أميركية وأوروبية غربية وإسرائيلية عن هذا الموضوع تبلغ 1012 بحثا، شارك في إعدادها حوالي 670 أستاذا وخبيرا مختصا في الفترة من 1959 إلى اليوم.

أدرك تماما أن ما سيتقرر أميركيا وإسرائيليا وأوروبيا غربيا، عن «كنفدرالية القرن الإفريقي» و«نظامان سودانيان في دولة واحدة» و«مجلس تعاون دول البحر الأحمر» ستظهر معالمه إلى الوجود المتحقق عمليا عن قريب، ولكن بمعزل عن أي إرادة عربية، رغما عن محاولتي الدائبة - وأقولها من دون ذاتية شخصية - إيقاظ من يعنيهم الأمر منذ العام 1995. عن كنفدرالية القرن الإفريقي في صحيفة («الخليج» - الشارقة - 27 إبريل و4 مايو 1995 ـ العددان 5825 و5832). والعام 1999 عن النظامين في دولة سودانية واحدة («الحياة» - لندن - 26 مايو 1999 ـ العدد 13227) وعن منظمة البحر الإقليمية العام 1998 (محاضرة - مركز الدراسات الاستراتيجية - الخرطوم - 29 إبريل 1998). ولعلي أتحسس أنفي الآن إذا كان مازال موجودا، فقد دعوت الإخوة العرب إلى مؤتمر عن القرن الإفريقي يعقد في قبرص بتاريخ 1 سبتمبر/ أيلول 1999. ولكن «لا حياة لمن تنادي».

سياسي ومفكر سوداني

العدد 40 - الثلثاء 15 أكتوبر 2002م الموافق 08 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً