العدد 5229 - الجمعة 30 ديسمبر 2016م الموافق 01 ربيع الثاني 1438هـ

القرية الإسلامية المبكّرة في فاران

بدأ الاستيطان في البحرين، في الحقبة الإسلامية المبكّرة، منذ قرابة القرن الثامن الميلادي، وبحلول القرن العاشر الميلادي تكوَّنت في البحرين قرابة سبعة مراكز استيطانية. هذا، ولا يعلم على وجه الدقة أي من تلك المراكز هي الأكثر أهمية في تلك الحقبة. إلا أن هناك تبايناً واضحاً في نوعية الآثار التي عُثر عليها في تلك المناطق؛ ففي بعض المناطق عُثر على آثار مباني واضحة (كما في عالي)، وفي مناطق أخرى عُثر فقط على ما يدل على وجود الاستيطان، كوجود قطع من الفخّار مثلاً. أضف إلى ذلك، عدم وجود إحصائية واضحة حول أعداد ونوعية قطع الفخّار التي عُثر عليها في كل منطقة؛ وبذلك لا يمكننا تحديد كثافة الاستيطان والمستوى المعيشي لهؤلاء السكّان.

ومن المناطق التي لا نعلم شيئاً حول نوعية الاستيطان فيها (الكثافة أو المستوى المعيشي) المنطقة الساحلية التي تقع جنوب البديّع وشمال الجنبيّة؛ كل ما نعلمه أنه عثر على لقى آثارية في هذه المنطقة تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين؛ ما يدل على وجود استيطان في تلك المنطقة في تلك الفترة. يذكر، أن هذه المنطقة الواقعة بين البديّع والجنبيّة كانت تعرف باسم «فاران». ونعلم، من خلال مصادر كتابية، أن منطقة فاران كانت مأهولة بالسكّان منذ القرن السادس عشر الميلادي بأقل تقدير؛ حيث ذكرها الشاعر جعفر الخطي (توفي العام 1618م) في إحدى قصائده (العوامي 2005، ج1، ص 405). وقد هجرها أهلها على فترات زمنية، وذاب ما تبقى من سكانها في قريتي القريّة والجنبيّة.

الاستيطان في فاران وجاراتها

بحسب النموذج الذي وضعه Larsen للاستيطان في منطقة فاران وجاراتها، فإن الاستيطان بدأ في فاران قرابة القرن التاسع الميلادي (Larsen 1983, appendix II). أما التوسع الاستيطاني فقد شمل كل المناطق المجاورة، المرخ، القريّة، الجنبيّة، بني جمرة، وقد حدث هذا التوسّع في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر الميلادي؛ وذلك على أساس وجود نظام القنوات المائية التحت أرضية (الثقب والأفلاج) في هذه المناطق، والذي تم تطويره وإعادة العمل به في هذه الحقبة (Larsen 1983, pp. 87 - 88).

ويبدو أن استنتاج Larsen منطقياً، حيث توجد دلائل أخرى تعزّز وجود توسّع في الاستيطان في الحقبة الإسلامية المتوسطة في كل تلك المناطق المحيطة بفاران القديمة. ففي منطقة القرية عُثر على لقى آثارية تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، كما عُثر في الطرف الجنوبي الشرقي لقرية المرخ على لقى آثارية تعود إلى الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والسابع عشر الميلادي. أما قرية الجنبيّة فنعلم أنها كانت مأهولة بالسكّان منذ القرن السادس عشر الميلادي بأقل تقدير؛ حيث ذكرها الشاعر جعفر الخطي (توفي العام 1618م) في إحدى قصائده (العوامي 2005، ج2، ص16).

وأما بني جمرة فقد اشتهر منها خطاطون وأدباء عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين منهم: زيد بن خميس بن يحيى بن حرز بن ناصر بن حرز الجمري الأوالي (الأحسائي 2003، الواحة العدد 28)، ومحمد بن يوسف بن أحمد بن صالح النجيل الجمري الأوالي (مقدمة كتاب «التحفة البهية في إثبات الوصية» library.tebyan.net)، والشيخ حسين بن علي بن سعيد النحيل الجمري (كتاب ملامح تاريخية عن بني جمرة للشيخ عبدالأمير الجمري).

يضاف إلى ذلك، وجود روايات شفاهية ترجّح أن نظام القنوات التحت أرضيه تم تطويره في الحقبة الإسلامية المتوسطة، وهي روايات تتعلق بالدرامكة.

الدرامكة وبناء نظام القنوات

الدرامكة هم جماعة استوطنت الجزء الشمالي من الساحل الغربي، وبالتحديد منطقة الجنبيّة وفاران وصولاً إلى اللوزي بالقرب من قرية الدمستان. ولا يعرف إلا معلومات قليلة حولهم. وغالبية ما وصلنا عنهم هي معلومات شفاهية مرتبطة بالموروثات الشعبية؛ فلذلك لا يمكن تكوين صورة حقيقية حولهم، وكل ما يمكن تلخيصه هنا عنهم يدور في فلك الفرضيات والنظريات. قيل إن الدرامكة جماعة ثرية جداً، حتى زعم البعض أنهم كانوا بمثابة الحكّام الذين حكموا، بأقل تقدير، قرى الساحل الغربي، من بني جمرة حتى كرزكان. وقد ارتبط بثرائهم المثل الشعبي الذي وثقه الشيخ محمد علي الناصري في موسوعته، وهو «ادبدب يا بطني مرق الليلة عرس الدرمكي» (الناصري، بدون تاريخ، ص 36).

والمرجّح، من الروايات الشعبية والتحقيق حول بعض علماء الدرامكة المعروفين، أن الدرامكة، استوطنوا البحرين قرابة القرن التاسع الهجري (نهاية القرن الرابع عشر الميلادي)؛ فقد عرف في هذه الحقبة الشيخ عبدالله بن داود الدرمكي وابنه الشيخ داود، والذي ترجم لهما الشيخ محمد علي التاجر في كتابه «منتظم الدرين» (التاجر 1430 هـ، ج3: ص 363). وهناك من يرى أن الشيخ الدرمكي من عمان؛ وذلك بسبب وجود قرية درمك في عمان والتي نسب لها، أنظر على سبيل المثل كتاب «أدب الطف» للسيد جواد شبر (شبر 1988، ج4: ص 319). والمرجّح أنه من سكنة البحرين؛ حيث يُرجّح وجود مجموعة من الدرامكة، وقد سكن العديد منهم في منطقة فاران القديمة (الجنبيّة حالياً)، حيث تتلمذوا في مدارسها الفقهية، وكان منهم العلماء والشعراء. وكان لهم في فاران مقبرة عرفت باسمهم، مقبرة الدرامكة، وبحسب الرواية الشعبية فإن في هذه المقبرة (والتي زعم البعض أنها تقع في قرية القُريّة حالياً) دفن قرابة ثلاث مئة عالم من فاران والجنبية وبني جمرة (العصفور 1993، ج3: ص 135).

الخلاصة، إن نموذج الاستيطان في فاران القديمة وما حولها، ليس واضحاً، كما في بقية المناطق. إلا أنه من المرجّح بدأ منذ الحقبة الإسلامية المبكّرة، وبدأ التوسّع في بداية الفترة الإسلامية المتوسطة، وذلك مع بداية تطوير وإعادة العمل بنظام القنوات التحت أرضية في تلك المناطق. يضاف إلى ذلك، أن المناطق الأخرى المحيطة للمرخ والجنبية وبني جمرة، عثر فيها على لقى آثارية تؤكد على نفس نموذج الاستيطان، وهذا ما سنناقشه في الحلقات القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً