«من السهل جداً أن يتحوَّل متشدِّد ما من النقيض إلى النقيض، فالتطرُّف في نهاية الأمر ليس مبنياً على عمق وتبصّر في العقيدة، ولا على اقتناع وإيمان بأي فكرة، لكنه روح قطبية رافضة لأي شيء وربما لكل شيء».
هذا تصريح جريء نوعا ما، وخصوصاً حين يأتي في صيغة سينمائية فنية، وعلى لسان مخرج معروف مثل مجدي أحمد علي. ستبدو جرأته تلك مغامرة باسمه وبتاريخه الفني، وربما بوصول أفلامه وقدرتها على الصمود في وجه أي جهة لا تعجبها آراؤه تلك.
علي أطلق ذلك التصريح فنياً وسينمائياً عبر فيلمه الأخير «مولانا» الذي قدَّم عرضه العالمي الأول في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي (7 - 14 ديسمبر/كانون الأول 2016)، وبعبارات مباشرة وصريحة خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض الفيلم، والذي أقيم ضمن فعاليات المهرجان.
التطرُّف، بحسب علي، ينشأ وسط بيئة فاسدة، يحتضنها نظام سياسي فاسد. في الواقع ينطلق التطرُّف من عمق هذا النظام، من قلبه، ومن داخل بيته. تماماً كما حدث في فيلم «مولانا» حين جاءت قمة التطرُّف من داخل بيت «الرئيس»، متمثلة في صورة شقيق زوجة ابن الرئيس.
تجديد الخطاب الديني
عبر قصة مشوِّقة وأحداث متشعِّبة ورؤية مثيرة للجدل، يطرح فيلم «مولانا» الحل لمواجهة الفساد السياسي والديني وما ينتجه من تطرُّف وجهل وتخلُّف وضياع، وذلك عبر تجديد الخطاب الديني، وإعادة تفسير أحكام الدِّين، وتوضيح ما يلتبس على العامة، وما يبدو تناقضاً صارخاً بين ما يدعو إليه الإسلام، وما تستوجبه الحياة في مجتمعات حديثة.
عبر قصة حاتم (يقوم بدوره عمرو سعد)، عالم الدِّين الشاب العصري، الذي تقوده الظروف لأن يتحوّل إلى مقدّم برامج دينية على إحدى الفضائيات، يسلط المخرج أحمد علي والكاتب إبراهيم عيسى، الضوء على ما يمكن أن تواجهه الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني من معوّقات وصعاب في مجتمع متأثر بدعاوى التشدُّد.
في الفيلم المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب إبراهيم عيسى، نتابع رحلة صعود الشيخ حاتم، من شيخ صغير يؤم المصلين في مسجد حكومي، ويلقي خطب جمعة غير اعتيادية وجريئة إلى حد ما تنتقد النظام السياسي الفاسد وتنذر المسئولين الفاسدين المستغلين لمناصبهم، إلى داعية تلفزيوني شهير، تُعجب الجماهير بجرأته في طرح آراء مخالفة ومغايرة لكل الآراء المتشدّدة التي اعتادت هذه الجماهير تلقّيها وسماعها من علماء الدِّين الآخرين في المجتمع نفسه.
الشيخ يدفع ثمن جرأته
على مدى 130 دقيقة، يتناول الفيلم بكثير من التفصيل الضغوط التي يعيشها الشيخ حاتم كعالم دين وكإمام جمعة وخطيب ومن ثم كداعية يتابع برنامجه آلاف المعجبين، ويقدم فتاوى جريئة وغير مألوفة، تستفز المؤسسة الدينية أولاً، وتثير اهتمام النظام السياسي ثانياً، فيسعى لإدخال الشيخ في اللعبة السياسة، واستغلال جماهيريته وشعبيته العاليتين لخدمة أهداف سياسية.
جرأة الشيخ حاتم تأخذه إلى عالم السياسة المعقّد، وتجعله هدفاً لمؤسسات أمنية تسعى للسيطرة عليه حيناً، ولتوريطه حينا آخر، مستغلة نقاط ضعفه لخدمة أهدافها من جانب، ومن جانب آخر تستهدفه جهات سيادية عليا، وهي في الفيلم تتمثل في ابن رئيس الدولة، وذلك بهدف الاستعانة به - على ما يبدو - في حل مشكلة أحد أبنائها، ومن ثم التورط في دماء أبناء الشعب، وانتهاء بمشاكل أسرية يكاد يفقد عائلته الصغيرة على إثرها.
الشيخ حاتم يغضب الجميع بآرائه غير المألوفة، بدءاً من علماء الدِّين والمؤسسة الدينية المتشدّدة، وذلك بتشكيكه ومناقشته وتناوله لعدد من القضايا المثيرة للجدل، رافضاً أفكاراً مشبوهة تحاول أن تشوّه صورة الإسلام، وتنال من صورة الرسول، مثل قضية حدود الاقتداء بالرسول، والإشارة إلى أن الرسول كان يعيش بما يمليه عليه عصره، منتقداً أولئك المتهمين من يخالفهم الرأي بضرورة التمسك بكل ما جاء في عصر الرسول باتباعهم منهج المعتزلة وإنكارهم سنة الرسول، والإيمان بنظرية المعتزلة حول معرفة الله بالعقل.
نخاسة باسم الدِّين
وتصل جرأة الشيخ حاتم إلى حدِّ أن يقوم، سواء من خلال برنامجه أو عبر أحاديثه مع مختلف الأطراف، بالتطرق إلى الحديث حول قضية الاعتراف بالآخر، المختلف في الدِّين أو الطائفة، منتقداً تكفير المسيحيين واعتبارهم أهل ذمة، ومعترضاً على الهجوم الذي تعرّض له الصوفية في مصر من ضغوط وإجبارهم على ترك البلد، واتهامهم بأنهم أصحاب بدع؛ إذ ابتدعوا زيارة المقابر واقامة الأضرحة واقامة المَوالِد. ومن القضايا التي يركّز عليها الشيخ حاتم، قضية زينب بنت جحش، وما استتتبعه ذلك من تصوير للنبي بأنه يشتهي النساء، وصولاً إلى تجارة الرقيق وخطة الاسلام للقضاء عليه، ومن ثم التضادّ بينه وبين مِلْك اليمين، وأخيراً إلى استغلال تلك التعبيرات لممارسة النخاسة من قبل البعض اليوم.
ولا ينسى كاتبا الفيلم، أن يتطرقا على لسان الشيخ حاتم، لقضايا حرية المرأة في الإسلام، والمساواة، وقضايا الميراث، والشهادة؛ وحتى إلى قضية لعن الملائكة للمرأة التي تهجر فراش زوجها، وبالطبع لن يغفلا مهزلة الفتاوى الكارثية الشهيرة التي أساءت للإسلام بشكل كبير.
نعم للتشكيك
الشيخ حاتم الذي وجد نفسه مُجْبراً على تصحيح تلك الإشكالات التي يطرحها المتشدّدون، والتي أدّت إلى ما بدا كتناقضات صارخة في الدِّين، جعلته يجد نفسه يطلق تصريحات ذات طابع سياسي تبدأ بدعوته إلى ضرورة التفريق بين الدِّين وعلماء الدِّين، أو من يتحدثون باسمه، ومن ثم توضيحه لجمهوره من المعجبين بأن حقيقة الفرقة في المجتمع طبقية بين غني وفقير، وليست فرقة أديان ومذاهب، وهو بذلك يؤكد حقيقة استخدام الدِّين كسلاح للتفرقة، ومن ثم للسيطرة، مشيراً إلى استغلال جميع الاديان في اللعبة السياسية، موضحاً بأن المسيحية أصبحت سياسة حين خرجت من بيت لحم، وبأن الإسلام أصبح سياسة حين توفي الرسول.
الأهم من كل ذلك هو تأكيد الفيلم، ومرة أخرى على لسان الشيخ حاتم وعبر المعوّقات التي تزرع في طريقه أو تحدث له، بأن بيئة التشدّد الديني والفساد السياسي المستغِل للدِّين لتحقيق أهدافه عبر تفرقة أبناء المجتمع الواحد إلى أديان ومذاهب وملل، هي بيئة مُثلى حاضنه لمختلف أنواع التطرُّف والتشدّد والإرهاب.
وكما جاء على لسان بطل الفيلم الشيخ حاتم، فإن هذه البيئة الرافضة لكل آخر، القامعة للمناهج التي تُعمل العقل في فهم الدِّين، والنابذة لكل تساؤل وتشكيك يمكن أن يوصل صاحبه لرسوخ في العقيدة وثبات في الإيمان، علماً بأن «المنهج التشكيكي وما يستتبعه من عدم تقديس الأشخاص، وبالتالي السعي إلى التأكد من كل الأحاديث الواردة والمنسوبة إلى الرسول» هو ضمان لعدم «اهتزاز الإيمان ورسوخه»، ولمنع الوصول إلى التطرُّف والتكفير».
تحليل سياسي غير مستغرب
الفيلم هو بمثابة درس سياسي تحليلي يتناول بعضاً من أخطاء النظام السابق، وجانباً من فساده وفساد المؤسسة السياسية آنذاك، كما يتعرّض لما أنتجه التشدّد في الدِّين الذي مارسه علماء دين ينتمون إلى مذاهب دينية متشدّدة من فرقة في المجتمع، وتحقيق للأهداف السياسية المشبوهة.
وبالطبع لن يكون ذلك أمراً مستغرباً من روائي مثل ابراهيم عيسى اشتهر بكونه واحداً من أشدّ المعارضين لممارسة السلطة السياسية في مصر، بل إن مواقفه المعارضة جعلت السلطات المصرية، إبان حكم الرئيس السابق حسني مبارك، تغلق ثلاث صحف كان يرأس تحريرها، وتصادر بعض رواياته.
وبالطبع أيضاً لن يكون مُستغرباً أن يرغب مخرج وكاتب بجرأة مجدي أحمد علي في اعتماد رواية إبراهيم عيسى «مولانا» المثيرة لكثير من الجدل بسبب ما تضمّنته من انتقاد للمؤسسة الدينية والسياسية على حد سواء، وما جاء في الفيلم قليل مما تحتويه الرواية. أعود لأقول لن يكون مستغرباً أن يعتمد علي رواية ابراهيم أساساً لفيلمه وهو المعروف بكونه صاحب المواقف الجريئة في أفلامه بدءاً من القضايا النسائية في فيلم «يا دنيا يا غرامي» إلى الدفاع عن الهوية المصرية في فيلم «البطل»، إلى واقعيته الصادمة في «أسرار البنات» وصولاً إلى جرعة عالية مما أسماه هو نفسه بالصدمات الفكرية في فيلم «مولانا».
التطرُّف روح وليس عقيدة
جرأة المخرج مجدي أحمد علي العالية في الفيلم ماثلتها جرأة أخرى في المؤتمر الصحافي للفيلم خلال مهرجان دبي، فعليّ دعا بشكل صريح إلى الفصل «بين الشخص الداعية وبين ما يقوله» مشيراً إلى أن ذلك «أمر صعب جداً في مجتمع محافظ مثل المجتمع المصري». كما قال إن «التطرُّف لا يبنى على عمق في العقيدة» وبأنه من السهل جداً أن يتحوّل المتطرِّف من النقيض إلى النقيض لأن «التطرُّف روح وليست فهم دقيق للعقيدة» وقال إن هذه الأفكار التي وردت في رواية ابراهيم عيسى، تم تجسيدها بشكل جيد في الفيلم، مع التركيز على أن «المتطرِّف ليس شخصاً يمتلك عقيدة حقيقية؛ لكن يمتلك روحاً قطبية... روحاً رافضة، ليست مبنية على اقتناع من أي نوع، وهذه هي خطورته».
وقال: «كان من المهم أن نجعل التطرُّف في الفيلم يأتي من قلب النظام، وأن يكون نتاجاً لكل ما ارتكبوه من أعمال طوال ثلاثين سنة».
«مولانا»... تحفة
الفيلم مادة مثيرة لكل من يحمل توجُّه الكاتبين، وينتقد فساد السلطة السياسية، ويكره التشدّد الديني. وأما على الجانب السينمائي الفني، فقد قدّم المخرج مجدي أحمد علي عملاً سينمائياً متكاملاً من حيث الاهتمام بجميع الفنيات اللازمة لخلق صورة سينمائية جيدة، بطاقم ضم أحمد بشاري في التصوير. ويعد هذا الفيلم ثاني عمل سينمائي لبشاري بعد فيلم «من ضهر راجل» (2015)، وعادل حقي في الموسيقى، وحقي لمن لا يعرفه موزع موسيقى اشتهر بوضعه الموسيقى الخاصة لعدد من أفلام ديزني مثل The Beauty and the Beast وفيلم The Lion King وكذلك عمله مع المطرب عمرو دياب.
من حيث الأداء تميّز الفيلم بطاقم تمثيل عالٍ بدءاً من عمرو سعد وهو الممثل الذي برز في السنوات الأخيرة في عدد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية وتميّز فيها، وهو هنا يقدّم أداء غير مسبوق، يُشهَد له، ويمكن القول إنه تمكّن من شخصية عالم الدِّين بشكل لم يسبقه إليه أحد في السينما المصرية.
كذلك يتميّز باقي الفنانين مثل الممثلة التونسية درة في دور أميمة زوجة الشيخ حاتم، التي تفقد جزءاً كبيراً من عاطفتها تجاه زوجها بعد تعرض ابنهما لحادث وبقائه في مصحة علاجيه خارج مصر؛ ما يشكّل ضغطاً من نوع مختلف على الشيخ حاتم، ويكاد يوقعه في خطأ مع فتاة تدسها المخابرات كإحدى معجباته الراغبات في مناقشة بعض الإشكالات الدينية الفكرية معه. وتقوم بدور الفتاة الممثلة ريهام حجاج مقدمة أداء جيداً من هذه الممثلة التي لا يضم سجلّها الفني عدداً كبيراً من الأعمال.
وإضافة إلى ذلك يضم الفيلم عدداً من الفنانين المعروفين الذين يظهروا في أدوار صغيرة لكنها مهمة مثل الفنان، أحمد راتب الذي يظهر في دور الشيخ فتحي مطلق فتوى إرضاع الكبير، والفنان فتحي عبدالوهاب في دور الأنبا باهوم الذي يقدم للشيخ حاتم تصويراً يكشف تورط الرئاسة المصرية في حادث تفجير كنيسة القديسين مار مرقص الرسول والبابا بطرس في الإسكندرية العام 2010.
لن تسعفني المساحة هنا للحديث بشكل أكبر عن الفيلم، لكنه باختصار فيلم يشبه بطله الشيخ حاتم تماماً، مثير للجدل، جرئ، وغير مألوف في السينما المصرية.
طرح رائع وأسلوب شيق
للاسف الشديد اذا كان البعض يستغل الدين لمآرب شخصية فالدين بيء منه أي كانت ديانته، ولا يوجد مسوغ للطعن في الاديان