لقد اعتنى ديننا الإسلامي بمفهوم القدوة الحسنة اعتناء كبيرا، وأعطاه مساحة واسعة في الثقافة الإسلامية، بيّن من خلالها بوضوح أهميته وحقيقته، وأثره في تنمية وإصلاح المجتمعات الإنسانية؛ أخلاقيا وسلوكيا وإنسانيا واجتماعيا وثقافيا وفكريا وعلميا وتربويا ونفسيا وروحيا. وقد ضاعف الله تعالى لمن يكون في مقام القدوة الحسنة الأجر الثواب في حال عمل بكل ما في وسعه على تحقيق أهدافه الإصلاحية، وكذلك ضاعف سيئاته في حال خالف قوله عمله وارتكابه المفاسد الصغيرة أو الكبيرة المتعمدة، التي تؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى فساد المجتمع؛ لأن مفسدته بحسب ما جاء في الثقافة الإسلامية، إن حصلت، فقد تؤدي إلى هلاك المجتمع واضمحلاله.
فهذا يبين أن مقام القدوة الحسنة حساس جدا، فلذا لا يستطيع أي أحد أن يكون قدوة حسنة من دون الانتصار على نوازعه النفسية، وهذا يتطلب منه أن يخوض مع نفسه حربا ضارية، لإفراغها من كل الشوائب الشيطانية أولا، ومنعها بكل الوسائل المعنوية المتاحة لديه عن ارتكاب المعاصي والموبقات، صغيرها وكبيرها، وكل ما هو مخالف للأسس الأخلاقية السوية ثانيا، وأن يتصف بأسمى الأخلاقيات والسلوكيات الراقية من غير تكلف ثالثا، وأن تتجلى في واقعه العملي، مفاهيم الصدق والأمانة وحسن الأخلاق والتفكير في مصالح غيره أكثر من تفكيره في مصالحه الشخصية رابعا، ويكون في أعلى درجاته الأخلاقية والإنسانية في الإيثار خامسا، حيث يقدم رضا الله تعالى والمصلحة العامة على مصالحه الشخصية، في كل الأحوال والظروف.
فالأنبياء والأولياء والصلحاء، لم يجعلهم الله قدوة للناس إلا بعد تمحيصهم وإخضاعهم إلى امتحانات وابتلاءات عملية صعبة جدا، فلما نجحوا روحيا ومعنويا وحققوا النتائج الأخلاقية العالية، على المستويين، الداخلي والخارجي، أعطاهم الله جل شأنه المقامات الرفيعة والمكانة العالية، بطبيعة الحال، في كل مجال من المجالات، العلمية والتربوية والتعليمية والاقتصادية والسياسية تجد قدوة حسنة، يكون له الأثر الإيجابي المباشر على كل مجال، فالطبيب يحتاج إلى قدوة حسنة في مجال الطب، لكي يكون دليلا له وسببا لتنمية قدراته الطبية، والمهندس لا يستغني عن القدوة الحسنة في مجال تخصصه، والتربوي الذي يريد أن يطور من قدراته ومهاراته لا بد أن يكون له قدوة حسنة في المجال التربوي، ولم يستثن أي مجال في مسألة القدوة، فكل تلك المجالات والتخصصات تحتاج إلى قدوة حسنة في الأخلاقيات الإنسانية، التي تساعدها على جعل عملها صالحا ومفيدا وخاليا من الأخلاقيات السلبية، ويكون في صالح أوطانهم ومجتمعاتهم.
بالتأكيد أن الهوى النفسي الذي يكون بعيدا عن العقل والتعقل لا يصلح أن يكون قدوة حسنة؛ لأن فيه ما فيه من التقلبات التي لا يحمد عقباها، الفاسد الذي يسعى بكل إمكاناته المتاحة له إلى خراب النفوس والعقول الإنسانية وتدمير كل ماهو طيب وجميل في هذه الدنيا، ويجعل من نفسه قدوة سيئة في مقابل القدوة الحسنة، التي تسعى جاهدة لرقي الناس في كل الاتجاهات، ويبذل كل ما في وسعه في إعاقة العمل الخيّر الذي يقوم به القدوة الحسنة، ليشيع في المجتمع الفساد بمختلف أنواعه الوقحة. لا ريب أن الإنسان إذا ما طهرت سريرته، يحسن عمله وتعامله مع الآخرين، ويفكّر في المصلحة العامة قبل تفكيره في مصالحه الشخصية، ويكون قادرا على تنمية مجتمعه تنمية إيجابية في كل الاتجاهات.
فمن متطلبات القدوة الحسنة، أن يكون صادقا مع الله تعالى ورسوله أولا، وصادقا مع نفسه ثانيا، وصادقا مع مجتمعه ثالثا، فأي خلل في إحداها يحدث كارثة أخلاقية وإنسانية واجتماعية في المجتمع. فالكثيرون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يمتلكون وعيا كافيا، يستطيعون من خلاله اختيار القدوة الحسنة لهم، فهم يعرفون أن القدوات غير الحقيقية أو الطارئة أو الفاسدة تسهم بصورة مباشرة في إفساد المجتمعات أخلاقيا، ويحاولون بكل الوسائل المتاحة لديهم تمييع مجتمعاتهم وجعل الشباب والشابات والرجال والنساء لا يفكرون إلا في ملذاتهم وشهواتهم ومصالحهم الشخصية، ويعملون على تزيين المفاسد في أعينهم بشتى الوسائل والطرق، ويجعلون الإرهاب وقتل النفس المحترمة، وتدمير الحضارات الإنسانية، وتشريد الآمنين من مدنهم وقراهم، وبيع النساء في سوق النخاسين والاستيلاء على أموال الناس بالباطل، من صميم العقيدة، ويوهمونهم أن من يفعلها ويمارسها ضد الآخرين الذين يختلفون معهم في الرأي أو المعتقد أو في أسلوب وآلية العمل، يدخل الجنة من غير حساب، وأكثر من هذا وذاك، يكون في المقام المحمود مع نبي الإسلام، محمد بن عبدالله (ص).
بخلاف القدوة الحسنة الذي يراقب الله في كل حركاته وسكناته وفي أقواله وأفعاله، فلا يدعو إلا إلى الخير بكل معانيه الراقية، وتجده محصنا بالتقوى والورع والنقاء النفسي والصفاء القلبي، وليس في قاموسه الأخلاقي، البغض والكراهية لأي أحد من الناس، ولا يتحدث عن أمر إلا بعد الإحاطة به إحاطة كاملة، ولا يقول قولا إلا بعد التفكير فيه عدة مرات، فهو يستهدف الممارسات الخاطئة في المجتمع لتصحيحها بالكلمة الطيبة وبالأسلوب الرزين، ولا يقصد من وراء ذلك إلا رضا الله تعالى ولإصلاح مجتمعه.
إقرأ أيضا لـ "سلمان سالم"العدد 5227 - الأربعاء 28 ديسمبر 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1438هـ