استعرض نادي السرد المنبثق عن أسرة الأدباء والكتاب تاريخ الحكاية الأدبية ومفاهيمها، وتطرق إلى جوانب تطبيقية أدبية تمثل ما يُعرف بمهارة تعدد الرواة لدى الروائيين البحرينيين، وأُقيمت الأمسية الأحد الماضي في مقر أسرة الأدباء والكتاب في منطقة الزنج.
وبدأت الأمسية بتقديم مبسط لزكريا رضي ثم انطلق الناقد عبدالإله رضي في تعريفه التاريخي والحديث للحكاية الأدبية، وقامت الناقدة مي السادة بإجراء تطبيقي لمفهوم تعدد الرواة على بعض الروايات البحرينية المنتقاة.
من جانبه، أوضح اعبدالإله أن الباحث يكون سيء الحظ وهو يقرر الكتابة عن مصطلح (الحكاية) وموقعه ضمن السرد، ذلك لأن الحكاية حين محاولة القبض عليه، يحيلك إلى الأشخاص الوارد ذكرهم في قصة الفيل وفي الغرفة المظلمة للصوفي الفارسي الكبير جلال الدين الرومي.
وهي قصيدة شهيرة تقول بأن مجموعة من الأشخاص وضعوا في غرفة مظلمة ومعهم فيل وطلب منهم وصف شكل الفيل وهم معصوبي الأعين، كل رجل من هؤلاء الرجال لمس جزءا من الفيل ، وكان الفيل بالنسبة لأحدهم عمودا، وبالنسبة للآخر قطعة قماش تغطي طاولة، أو مروحة أو حبل.
وهكذا يكون وضع الباحث عن مصطلح “ الحكاية “ في السرد، فرغم أن هذا المصطلح هو مصطلح معلوم ومعروف لدى أغلب العاملين في حقل السرديات إلا أن اغلب الدراسات التطبيقية الحديثة لا تكاد تتفق حول مفهوم مشترك يمكن الاطمئنان إليه والعمل به ، ليتحول السؤال الذي يشغل الباحث في مصطلح “ الحكاية “ إلى السؤال التالي : هل من تعريف للحكاية؟.
وذكر عبدالإله للإجابة أننا بحاجة إلى حكاية تاريخية حول مصطلح "الحكاية " وانطلق بداية بالفلسفة اليونانية وتحديدا مع الفيلسوف "أفلاطون" وتلميذه "أرسطو".
وأوضح أن الرجوع لأفلاطون مهم لأنه أول شخص ميز بين الصيغ السرديّة حيث ميز بين صيغيتين سرديتين أسمى الأولى ( الحكاية الخالصة ) أو القص الصافي وفيها يكون الشاعر نفسه هو المتكلم دون أن يشعرنا بوجود شخص آخر يقاسمه الكلام.
والصيغة السردية الثانية التي قال بها أفلاطون هي صيغة المحاكاة حيث يتحدث الشاعر بواسطة شخصيات أخرى غير الشاعر وبذلك يقوم الشاعر بمحاكاة الشخص الذي يتقمص شخصيته.
ومع تلك المحطة الأولى لأفلاطون، سيظهر لدينا الفرق بين مصطلحين هما ( القص أو الحكاية والمحاكاة ) ، وسينتصر أفلاطون للحكاية ضدّ المحاكاة ، فالحكاية في تعريف أفلاطون هي الصيغة السردية التي تظهر فيها شخصية الشاعر أمام القارىء بشكل مباشر ودون وساطة ، وكأن أفلاطون بهذه الصيغة السردية للحكاية الخالصة يريد أن يطبق نظريته في ( المثل الأفلاطونية ) وأسطورة سجناء الكهف ، فحسب هذه الأسطورة أو الأمثولة فإن الإنسان يعيش في هذا العالم الأشبه بالسجن أو الكهف المظلم الذي يرى فيه ظلال الحقائق وليس الحقائق النهائية ، نحن نرى ( محاكاة ) للحقيقة وليس( الحكاية الخالصة ) التي تقع في عالم المثل وبعيدا عن الحواس.
هذه هي المحطة الأولى في تاريخ مصطلح “ الحكاية “ وفيها نرى أن أفلاطون يعتبر الحكاية الخالصة ضد المحاكاة وينتصر للطرف الأول من ثنائية ( القص / المحاكاة ).
وخصومة أفلاطون للمحاكاة لأنه يراها طريقا أقل مرتبة من العلم وأكثر بعدا عن ادراك جوهر الحقائق.
وتبعا لهذا المفهوم للحكاية قام أفلاطون بإعادة صياغة لإلياذة هوميروس بعد أن حذف منها مايراه منافيا للحكاية الخالصة، أي أثر للمحاكاة لأنه وحسب أفلاطون المحاكاة أقل مرتبة من العلم والصناعة وفيها بعد عن إدراك جوهر الحقائق، وهذا هو أيضا سبب عداء أفلاطون للشعر والشعراء لأنه يرى فيهم مجرد ظلال للحقيقة يحاكون عالم المثل بشعرهم ولا يعبرون عن الحقائق النهائية بل إنهم وبسبب استخدامهم المفرط للخيال قد يشوهون الحقيقة ويبعدون الناس عنها.
وتطرق المتحدث إلى المحطة الثانية وهي مرحلة أرسطو تلميذ أفلاطون.. وقال إن التعريف السابق للحكاية لدى أفلاطون وخصومة أفلاطون لمبدأ المحاكاة هو الذي سيكون نقطة الهجوم لأرسطو تلميذ أفلاطون، فأرسطو يرى أن استاذه لم يحالفه التوفيق في استبعاده لمبدأ المحاكاة من الحكاية ، بل على العكس مع أرسطو سيغدو مبدأ المحاكاة له مركزية هامة في فهم الحقيقة ، وسيصبح مبدأ المحاكاة مبدأ عاما مهيمنا على كل تعبير فني من شعر وموسيقى وملحمة أو رسم ، والشاعر حسب أرسطو لا يشوه الحقيقة كما ذهب أستاذه أفلاطون ، لأن أفلاطون حسب أرسطو قد فهم وظيفة الشعر فهما خاطئا ، فالشعر لا يعبّر عمّا هو كائن بل يعبّر عمّا يمكن أن يكون ، يقول ارسطو : (ان عمل الشاعر ليس رواية ما وقع ، بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منشور، (فقد تصاغ أقوال "هيرودوتس" في أوزان فتظل تاريخاً سواء وزنت أم لم توزن ) بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه، ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة، وأسمى مرتبة من التاريخ ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ اميل إلى قول الجزئيات(1) أرسطو على العكس من أفلاطون يرى أن المحاكاة أعظم من الحقيقة ومن الواقع، وموضوع الفنون والآداب هو المحاكاة مع الطبيعة والواقع وكلّ فنّان أو أديب هو فنّان محاكي ، والمحاكاة هي القانون الذي بسببه تختلف الفنون في قيمتها واهميتها ، ولذلك سيعيد أرسطو الاعتبار لمفهوم الحكاية بوصفها محاكاة وذلك تحت مسمى ( الحبكة / ميثوس ) وذلك في كتابه ( فن الشعر ) وسيعطي للحكاية مكانة خاصّة بوصفها تعبّر عن عن روح المأساة.
وخلص الباحث إلى أن أرسطو وبانتصاره لمبدأ المحاكاة سيتغير تعريف الحكاية وتنقلب ثنائيّة ( الحكاية الخالصة / المحاكاة ).
وفي سياق متصل، تحدث عبدالإله عن المحطة الثالثة وهي الحكاية في الغرب، وقال إنه ومع مفهوم أرسطو لمبدأ المحاكاة وأهميته والحكاية وأهميتها سينفتح باب واسع فيما بعد أمام النظريات النقدية التي جاءت بعد أرسطو وسيكون هناك ثراء نظري في مفاهيم الحكاية لدى الغرب.
ويصعب في هذه العجالة التطرق بالتفصيل إلى النظريات والمناهج الغربيّة لقراءة مفهوم الحكاية : ولكن يمكن ذكر النظريات التالية:
1- الشكلانيون الروس ومنهج فلاديمير بروب:
مع الشكلانيين الروس والناقد فلاديمير بروب سيخطو مفهوم “ الحكاية “ نحو مرحلة علميّة ونقدية أعمق ، فمن خلال دراسة الحكاية الشعبية قام بروب بتحليل الحكاية إلى مجموعة من الأحداث التي تؤدي وظائف مستقلة وللتعرّف على أي حكاية يجب علينا تحليل هذه الوظائف التي بلغ عددها حسب بروب إلى 31 وظيفة.
أهمية عمل فلاديمير بروب والشكلانيين الروس أنه طور مفهوم الحكاية نحو مفهوم علمي دقيق في تحليل الحكاية وهو ماسيتم استثماره فيما بعد من قبل الحركة البنيوية.
2- ماجاء به “ جوليان غريماس “ في علم السيميائيات حيث عرّف الحكاية بانها تاريخ أو جملة من الأحول والأحداث يمر بها كائن ما . وقام بمتابعة منهج الشكلانيين الروس وطور مفهوم الوظائف السردية في الحكاية نحو مايعرف بالوحدة السردية الذي بموجبه تنقسم الحكاية إلى ثلاث وحدات هي ( وحدة الانفصال / وحدة التعاقد / وحدة الاختبار).
3- جيرار جينيت عملاق التنظير لمفهوم الحكاية:
أهم درس قدمه الشكلانيون الروس للنقد الأدبي هو تمييزهم بين مفهومين مهمين جدا في حقل النقد الأدبي وهو : المتن الحكائي والمبنى الحكائي أو مايعرف اختصارا بالحكاية والخطاب ، والمتن الحكائي هو مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها والتي يقع إخبارنا بها من خلال النص ، بينما المبنى الحكائي هو الطريقة والنظام الذي تقدم به هذه الأحداث في العمل ، وبشكل مبسط فالحكاية هي ( مايقال ) والخطاب هو ( كيفية القول ) وستصبح هذه الثنائية ( الحكاية / الخطاب ) وجهان متلازمان في أي عمل أدبي لا يمكن القول بوجود أحدهما دون الآخر.
جيرار جينيت الناقد الفرنسي سيلتقط هذه الثنائيّة وسيواصل المسيرة التاريخية لتطوير مفهوم الحكاية وسوف يضع للحكاية ثلاث تعريفات:
1- الحكاية هي أي خطاب شفوي أو مكتوب يقوم برواية حدث أو سلسلة من الأحداث
2- الحكاية هي مجموع العلاقات بين الراوي والمروي
3- الحكاية ليس البتة الحدث الذي يروى بل هي فعل السرد أو الخطاب
وسنعود هنا مرّة أخري إلى الاختلاف وعدم الثبات في إعطاء مفهوم دقيق ومحدد للحكاية فهي أحيانا تعني الحدث وأحيانا تعني العلاقات وأحيانا فعل السرد ، وللخروج من هذه التعاريف المتعددة ستتضح عبقرية " جيرار جينيت " في كتابه العميق جدا " خطاب الحكاية : بحث في المنهج " حيث سيحاول ضبط حدود تعريف الحكاية عن طريق التعريف الموجب للحكاية والتعريف السالب للحكاية.
ولنبدأ بالتعريف الموجب وهو التعريف المتفق عليه ضمن مصطلحات التعبير الأدبي بأن الحكاية هي تمثيل حدث أوسلسلة أحداث حقيقة كانت أم خيالية بوساطة اللغة وبخاصة اللغة المكتوبة.
جيرار جينيت يرى أن هذا التعريف على بداهته فهو يحجب عن الناقد جوهر الحكاية لأن الحكاية في النظريات الأدبية الحديثة أصبحت تهتم ( فعل الحكي ) و ليس ( الحكي ) وانتقل النقّاد نحو سؤال كيف تعمل الحكاية بدلا ممّا هي الحكاية.
أو لنقل الإهتمام بكيفية القول وليس مايقال فإن المهم في الحكاية ليست الحداث التي ترويها فحسب بل الكيفية التي تروي تلك الأحداث أيضا وبالتالي ينقلب لدينا السؤال الذي بدأنا به وهو ( ماهي الحكاية ؟) ليصبح السؤال الذي يشغل بال نقاد السرد هو ( كيف يعمل الحكي والحكاية ؟).
وانطلق الباحث إلى الحديث عن التعريف السالب للحكاية، وقال إن التعريف السالب للحكاية يتعرّف على مفهوم الحكاية من خلال الإجابة على السؤال المضاد وهو: ماهي اللاحكاية؟، قائلاً "فإذا عرفنا ماهي اللاحكاية سنعرف الحكاية".
ويصل جيرار جينيت من خلال التعريف السالب للحكاية إلى أن الحكاية الخالصة لا وجود لها بل يجب ان نحكم بموت الحكاية ، فما يوجد لدينا حقيقة هو خطاب للحكاية والهوس بوجود شيء اسمه الحكاية الخالصة هو وهم يدفعه حب المرء للإمساك بالحقيقة وآن لنا ان نتخلص من هذا الوهم الذي يتحكم بعقولنا.
وخلص الباحثُ إلى القول أننا شاهدنا كيف انتقل مفهوم الحكاية عبر التاريخ من القول بوجود شيء اسمه ( الحكاية الخالصة ) لينتهي بنا المطاف مع جيرار جينيت إلى موت الحكاية وإن الحكاية الخالصة لا وجود لها ومايوجد هو خطاب الحكاية وهمّ الناقد الحديث يجب أن ينصب على سؤال الكيف وليس الماهية وربما كان الانتقال لسؤال الكيف هو التأثر بما أحدثه هذا السؤال من تأثير ونجاح في حقل العلوم الطبيعية فأرادات العلوم الإنسانية سلوك نفس المسار كي تحقق نفس النجاح.
من جانبها، تحدثت الناقدة مي السادة عن تقنية تعدد الرواة في العمل الروائي وأثره في النص، وقامت بعملية تطبيق واضحة وسلسة على عملين أدبيين بحرينيين.
وكان المثال الأول يدور حول تعدد الرواة في رواية دلمونيا، وهي نص روائي للكاتب البحريني رسول درويش تناول فيه رحلة الرحالة آدم من بلاد الغرب حتى حطت رحاله في أرض الخلود دلمونيا، وأكدت على تميز النص بتعدد الرواة مما أسهم في ثراء وغنى النص، وقالت أن كل وحدة سردية عنونت باسم ساردها فكانت الوحدة تسرد على لسان الشخصية الرئيسية في الوحدة ذاتها.
وذكرت مثالًا ورد في رواية دلمونيا وهي حادثة مقتل ناصر، فقد تم سرد هذه الحادثة على لسان أكثر من راوي سرد الحادثة ورد على لسان: السيب يوسف(المتهم)، التاجر(والد القتيل)، خولة (شخصية رئيسية بالنص) المترجم، عميد عائلة آل جبور.
وفي ذات السياق، أضافت مي مثالًا آخر وهو رواية منزل فوق غيمة لمحمد عبدالملك، وأضحت أن الرواية تدور حول علاقة زوجية مضطربة بين الزوجة نوال والزوج إبراهيم. وقد استخدم الروائي تقنية تعدد الرواة لنفس الحدث أو المشهد. فالحدث يروى مرة على لسان الزوجة ثم يعاد على لسان الزوج، وهي تقنية فتحت المجال للمتلقي لرؤية الموقف من أكثر من وجهة نظر.
وفي ختام الأمسية الأدبية، تقدم الحضور بطرح مداخلاتهم وأسئلتهم، وتولى الباحثان الإجابة عليها بصدر رحب مما كان له بالغ الأثر في توضيح فكرة الحكاية وتعدد الرواة.