يقول برايان تريسي: «إن ملايين الأميركيين لا ينامون عددًا كافيًا من الساعات كل أسبوع؛ لانشغالهم بالعمل».
والدارسون للحضارة اليابانية يقررون انشغال اليابانيين بميكنة الأداء والانغماس في محيط العمل، فالياباني مشغول في دائرة العمل الجاد، وفي اليابان -مقارنة بجميع دول العالم- يعمل الموظفون أطول ساعات عمل ويحصلون على أقصر أيام إجازة، ويقضي المعلمون والطلاب أطول يوم، وعام دراسي، ويأخذون أقصر عطلة دراسية.
وعادة ما ينصرف العاملون من أعمالهم في الخامسة من كل يوم، أما المديرون فيبقون بعد ذلك فترة قليلة، وفي نحو السادسة يقوم المدير العام بالمرور على بقية المديرين ويأذن لهم بالانصراف إلى أهليهم وأسرهم، وفي معظم الليالي يذهب الرجال إلى المكتبات أو مشاهدة الألعاب الترفيهية، وفي نحو السابعة والنصف يتوجه المدير العام إلى القطار الذي ينقله إلى منزله البعيد عن مقر عمله (غالبًا) فيصل في التاسعة تقريبًا، ويلاحظ الجيران هذا الوصول المتأخر، فيفترضون أن هذا الموظف مهم للغاية، وهذا بمثابة شرف تناله أسرته.
وبعد هذا لو سألنا القارئ الكريم في البحرين الأسئلة التالية، فما الإجابات يا ترى؟
1.هل تؤيد إطالة الدوام الرسمي؟
2.هل تؤيد التحول نحو نظام الدوام على فترتين؟
3.هل تؤيد تقليص مدة الإجازات السنوية؟
4.هل تؤيد إطالة الدوام الدراسي؟
5.هل تؤيد تقليص الإجازات الدراسية؟
سألتُ -أثناء أداء عملي كمدرب إداري- مجموعة من المدراء في إحدى الدول الخليجية الشقيقة هذه الأسئلة، فما تظنون كانت الإجابات؟
أما حالنا -كعرب- اليوم، فالكسل سمة متفشية فينا، ولم يكن أجدادنا وأباؤنا يعرفونه.
فهل الأفضل أن نعمل بجدٍ فلا نُبقي للترفيه وقتًا، -كما يفعل كثير من الأميركيين وكثير من اليابانيين-، أم أن نواصل في طريقتنا الحالية ونسمي الكسل قناعة؟
سنؤجل الإجابة عن هذا السؤال إلى ما بعد قراءة القصة التالية، والتي تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي كثيرًا، وهي:
قَعَدَ رجل أعمال أميركي على شاطئ أحد أنهار المكسيك. ولفت نظره اقتراب صياد مكسيكي صغير من الشاطئ، فنظر رجل الأعمال الأميركي إلى حال ذلك الصياد، فوجد مركب صيده البدائي، وكذلك الأدوات التي يستعملها، ورأى بجانبه كمية من السمك قام الصياد باصطيادها بالفعل، فناداه رجل الأعمال فاشترى منه بعض السمك، ثم سأله:
كم تحتاج من الوقت لاصطياد مثل هذه الكمية من السمك؟
قال الصياد: 3 ساعات تقريبًا، فسأله ثانية: فلماذا لا تقضي وقتًا أطول في الصيد فتكسب أكثر من ذلك؟ فرد الصياد: ما أصطاده يكفي حاجاتي وحاجات أسرتي.
فسأله رجل الأعمال الأميركي: ولكن ماذا تفعل في بقية وقتك؟
فرد الصياد: أنام ما يكفيني من الوقت، وألعب مع أطفالي، وأنام القيلولة مع زوجتي بالنهار أيضًا، وأقضي معها بعض الوقت، وفي الليل أتجول مع أصدقائي في القرية ونجلس معًا، ونتسامر فترة من الليل، فأنا حياتي مليئة بغير العمل، هز رجل الأعمال الأميركي رأسه في سخرية من كلام الصياد المكسيكي، ثم قال له: سأُسدي لك نصيحة غالية يا صديقي، فأنا رجل أعمال أميركي مُخضرم:
أولًا: يجب أن تتفرغ أكثر للصيد حتى تزداد كمية ما تصطاده.
ثانيًا: بعد فترة من الزمن، -ومع تقدمك المادي- تشتري مركبًا أكبر وأحدث من هذا القارب الصغير.
ثالثًا: يمكنك بعد ذلك بفترة -ومع ازدياد أرباحك- أن تشتري عدة قوارب كبيرة للصيد.
رابعًا: ستجد نفسك بعد فترة من الزمن صاحب أسطول بحري كبير للصيد، وبدلًا من قضاء الوقت والجهد في بيع السمك مباشرة للناس، سترتاح ببيعك فقط للموزعين.
وأخيرًا: وبعد كل هذا النجاح ستستطيع وبكل سهولة أن تنشئ مصانع التعليب الخاصة بك، والتي يمكنك بها التحكم في إنتاجك من الأسماك، وكميات التوزيع أيضًا، وتنتقل بهذا النجاح من قرية الصيد الصغيرة هذه التي تعيش فيها إلى العاصمة، (مكسيكو سيتي) ومنها لأميركا، وهكذا ستصبح مليونيرًا كبيرًا يشار إليه بالبنان.
أرأيت يا صديقي، كيف يكون التفكير الصواب؟
سكت الصياد قليلًا، ثم سأل رجل الأعمال الأميركي العجوز: ولكن كم يتطلب كل هذا النجاح من وقت؟
قال رجل الأعمال: من 15 إلى 20 سنة فقط.
فقال الصياد: وماذا بعد ذلك؟ فقال رجل الأعمال: عندما يحين الوقت المناسب، تقوم ببيع شركتك وجميع أسهمك وتصبح بعدها غنيًا، ستملك ملايين الدولارات.
نظر الصياد إلى التاجر ثم سأله: وماذا بعد الملايين؟
قال التاجر: تستقيل، وتستمتع فيما بقي لك من العمر، تشتري شاليهًا صغيرًا في قرية صيد صغيرة، تستمتع فيه مع زوجتك وأبنائك، تنام بالنهار القيلولة مع زوجتك، وتقضي معها بعض الوقت، تلعب مع أبنائك، تخرج ليلًا تتسامر مع أصدقائك، وفوق كل ذلك تستطيع النوم لفترات أطول وأجمل.
فقال الصياد المكسيكي في دهشة: هل تعني أن أقضي 20 سنة من عمري في التعب والإرهاق والعمل المتواصل، والحرمان من زوجتي وأبنائي ومن الاستمتاع بصحتي، لأصل في النهاية إلى ما أنا عليه الآن؟!
نحن العرب والمسلمين -عمومًا- نسمي التواكل توكلًا والكسل قناعة وزهدًا. ويستهوينا مثل هذه القصص، لتبرير ميلنا إلى حياة الدعة والراحة.
فهل طريقة عيش الصياد هي المثلى، أم أن ما يدعو إليه التاجر الأميركي هو الأفضل؟ وهل خلق الإنسان للجد والعمل أم للاستمتاع والرفاه؟ ترى ما إجابة القارئ الكريم؟
قد يجيب الكثير من الناس: أنْ لا هذا ولا ذاك، ولكن أمرٌ بين أمرين.
وقديمًا قال إفلاطون: «إن الفضيلة وَسَطٌ بين رذيلتين»، هذا يعني التوسط بين الطريقتين، فلا نقضي اليوم كله في العمل الجاد بحيث لا نريح أبداننا، ولا نجد وقتًا نقضيه مع عوائلنا ومجتمعنا، ومن جانب آخر، لا نهمل أعمالنا، ونقضي الساعات الطوال فيما لا ينفع. وهذا الأمر بين الأمرين، هو ما سُمي بوسطية إفلاطون.
لقد أمر الإسلام بالعمل، «فقل اعملوا» ونهى عن الكسل كما نهى عن التكالب على الدنيا والتمحور حول العمل والإفراط فيه.
يقول النبي الأعظم (ص): «أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب»، ويقول (ص) أيضًا: «إنّ الرزق ليطلب الرجلَ كما يطلبه أجلُه».
ويقول الإمام علي (ع): «الرزق رزقان؛ رزق تطلبه ورزق يطلبك، ولن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب، ولن يبطئ عنك ما قدّر لك»، فهناك قسم من الرزق ستناله وإن لم تعمل أو تكدح، قال الإمام الصادق(ع) عن هذا القسم من الرزق: «ولو أنّ أحدكم فرّ من رزقه كما يفرُّ من الموت لأدركه رزقُه كما يدركه الموت». وهناك قسم من الرزق لا ينال إلا بالعمل والطلب والجد والاجتهاد.
ومرض إدمان العمل workaholic واللهث وراء الدنيا ظاهرة متفشية في حياة كثير من الشعوب. ويقرر ستيفن كوفي -وهو كاتب أميركي شهير- أن لا أحد يتمنى وهو على فراش الموت أن يكون قد قضى عدد ساعات أكثر في العمل. ويقول أحد الأدباء الغربيين: «في شباب المرء ينفق الكثير من صحته من أجل الحصول على المال، وفي شيخوخته ينفق الكثير من المال في سبيل استرداد صحته، ولكن دون جدوى».
وفي هذا المعنى يقول علي (ع): «مَنْ جار على شبابه جارت عليه شيخوخته».
وهذه بعض التساؤلات مطروحة أمام القارئ الكريم للنظر فيها:
1 - ما رأيك في وظيفة ثانية مسائية بعد الدوام الرسمي الصباحي؟
2 - الوظيفة العامة -ثماني ساعات عمل فقط في اليوم- أم العمل الحر والذي يستمر لأكثر من اثنتي عشرة ساعة عمل في اليوم بما في ذلك أيام عطلة نهاية الأسبوع؟
3 - ما رأيك في فكرة العمل في وظيفتين أيام الشباب والصحة والنشاط، ومن ثم الاقتصار على وظيفة بعد بلوغ الخمسين من العمر؟
4 - العمل في القطاع الخاص -وقت أطول ومهام أصعب- أم العمل في القطاع العام؟
5 - هل التقاعد المبكر هو الأفضل أم الاستمرار في العمل حتى سن التقاعد الاعتيادي وأحيانا تجاوزه؟
6 - ماذا عن عمل المرأة؟ وهل تسارع إلى التقاعد المبكر أم تستمر في العمل حتى سن التقاعد الاعتيادي؟ في اليابان تعمل المرأة إلى أن تتزوج، ومن ثم تستقيل وتتفرغ لأسرتها، ثم تعود للعمل بدوام جزئي بعدما يدخل أصغر أبنائها الجامعة -في الغالب ليس لديها أكثر من 3 أبناء-. وليس عادة ترك العمل والعودة له قانونًا، ولا يطبقها كل النساء، لكنها موجودة في الثقافة اليابانية. فهل يناسب هذا الأسلوب مجتمعنا في البحرين؟
7 - بعد التقاعد الاعتيادي أو المبكر، هل تعمل أم تخلد للراحة والاستجمام؟
يقترح عليك الكاتب الأميركي الشهير ستيفن كوفي -بعد تقاعدك- الانخراط في العمل الخيري -كبديل ثالث- غير الاستمرار في العمل، والخلود للراحة.
إقرأ أيضا لـ "جاسم الموالي"العدد 5225 - الإثنين 26 ديسمبر 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1438هـ
مقال ثري أستاذ جاسم .أسلوب رائع
من اجمل ما قرأت اليوم
اشكرك استاذي