«كاروشي» مصطلح تنفرد به اللغة اليابانية عن سائر لغات العالم، ويقصد بها «الموت بسبب الإفراط في العمل» (Death from Overwork) أو العمل حتى الموت (Work to Death). استخدم هذا المصطلح لأول مرة العام 1982 من قبل ثلاثة أطباء، وذلك في وصفهم لمجموعة من الاضطرابات القلبية والنفسية المرتبطة بالإجهاد في العمل.
وعرفت أول حالة كاروشي في نهاية العقد السادس من القرن الماضي، لموظف يبلغ من العمر 29 سنة الذي توفي في عمله، بعد أن أصيب بجلطة دماغية نتيجة العمل المتواصل لأكثر من 16 ساعة يومياً. وقد بدأت وزارة الصحة اليابانية تسجيل حالات ضحايا الكاروشي، بعدما لقي مجموعة من المديرين الأكثر نجاحاً حتفهم بشكل مفاجئ واحداً بعد الآخر.
يعد كاروشي أمراً شائعاً في اليابان، حيث غالباً ما تتصدر عناوين الصحف عن حالات ارتفاع الموت المفاجئ بين الموظفين. وقبل فترة تناولت وسائل الإعلام خبر كينجي (42 سنة) وهو موظف في شركة أمنية بطوكيو، والذي كان مخلصاً في عمله، ويؤمن بالمزايا الأخلاقية للعمل الشاق، فكان يعمل 15 ساعة في اليوم بالإضافة إلى 4 ساعات يقضيها في التنقل من وإلى العمل، وبسبب إفراطه في العمل، فقد سقط على مكتبه، وبقي على هذا الوضع لساعات حيث ظن زملاؤه أنه في نوم عميق قبل أن يدركوا بأنه قد فارق الحياة بسبب سكتة قلبية.
ومن الحالات التي تناولتها وسائل الإعلام أيضاً بشأن أحد العمال بأحد المطاعم، كان يعمل 110 ساعات أسبوعياً لم يكمل عامه الـ34 حتى توفي فجأة بأزمة قلبية. تروكي ياماشيتا موظف ذو 53 عاماً، كان يعمل كرجل مبيعات ليل نهار، وبسبب ضغوطات العمل كان ينام في المتوسط 3 ساعات، حتى أصيب بنزيف مفاجئ بشبكة العين أفقدته بصره.
وتعود ظاهرة كاروشي إلى حب اليابانيين لوطنهم، وإخلاصهم للعمل وثقافتهم التي تقدّر وتعشق المتفانين والمخلصين في عملهم، لأجل رفعة وطنهم ونجاح المؤسسات التي يعملون لها. هذه الثقافة التي تنظر إلى الموظف الذي يستنفد أيام إجازته الأسبوعية أو المرضية أو كثير التغيب عن العمل، وتجده يبحث دائماً عن فرصة سفر لحضور دورات أو اجتماعات خارجية لزيادة دخله والهروب من العمل، بأنه شخص كسول ضعيف غير منتج، لا يمكن الاعتماد عليه في العملية التنموية لأنه يكون مصدراً للفساد والفشل.
إنه وبسبب انتشار هذه الظاهرة، قرّرت الحكومة تعويض عائلة الضحية بنحو 20 ألف دولار سنوياً، بينما تدفع الشركة نحو مليون و600 ألف دولار، على رغم أن العامل يعمل برغبة منه. فقد أصبح شائعاً في المجتمع الياباني أن يعمل الموظف أعمالاً وساعات إضافية من دون مقابل. وطبقاً للمجلس الوطني للدفاع عن ضحايا الكاروشي فقد تجاوز عدد الضحايا 10 آلاف ضحية العام 2015، منها 95 في المئة موظفو شركات في منتصف العمر، بينما تمثل السيدات نحو20 في المئة. وخلال الفترة 2005 – 2008 وصلت حالة الكاروشي إلى نحو 300 حالة سنوياً.
يعتبر الشعب الياباني من أكثر الشعوب إدماناً على العمل، وقد نما هذا الشعور بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، حيث تضاعف عملهم، وأصبحوا يعملون لساعات أطول بكثير من ساعات العمل في أي بلد آخر. وقد اعتمدوا في نهضتهم الاقتصادية على الكفاءات المحلية من أصحاب المؤهلات العلمية؛ وليس التوارث أو المحسوبية التي لا تؤمن بطريق الإبداع والابتكار كنهج للتقدم والازدهار.
لا أحد يؤمن بالعمل حتى الموت، ولا أن يتحوّل الموظف إلى آلة تستخدم حتى تستهلك تماماً، والأصح هو التوازن ما بين قدرات الموظف. ولكن أعتقد جازماً أننا كمجتمع خليجي، وكذلك بقية المجتمعات العربية ولله الحمد، محصّنون تماماً من هذا المرض القاتل؛ بل لدينا مناعة فائقة تحمينا من الاقتراب منه، فكل مؤشرات العمل والإنتاجية تشير إلى أننا بعيدون كل البعد عن الكاروشي الياباني.
إنه وبفضل وفرة الموارد النفطية وما توفره من إيرادات ضخمة تمول جميع التزامات الدولة؛ بل يفيض على ذلك، فإن الإنتاجية لم تعد ضرورةً وهدفاً استراتيجياً، لا للفرد ولا المؤسسات الإنتاجية، كما أن تفشّي ظاهرة البطالة المقنعة في مجتمعنا أصبح أمراً مجازاً في عقيدتنا الاقتصادية، على رغم أنها مصدر لإهدار المال العام، فالعمل الذي يمكن أن ينجزه موظف خلال ساعة قد ينجز في أسبوع وبعدد أكثر من الموظفين. أما بالنسبة للاختراعات والابتكارات والإبداع في العمل والتنمية المستدامة، فقد تركنا أمرهم للأجيال القادمة. اللهم أصلح أمرنا واستر عيوبنا.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"العدد 5223 - السبت 24 ديسمبر 2016م الموافق 24 ربيع الاول 1438هـ
عندنا بعد كاروشي
عندنا بعد احنا كروش من كثر الراحة والكسل عند موظفين الحكومة صارت لهم كروش واصلة لركبهم .
شكرًا لك على المقال الرائع .. التوازن هو الحل فنحن لسنا آلات لا تتعب و في نفس الوقت لدينا طاقة للعمل يجب عدم إهدارها