كثير مما كتبه الباحث والروائي الأوروغواياني الراحل، إدواردو غاليانو (3 سبتمبر/ أيلول 1940 - 13 أبريل/نيسان 2015)، يعمل على تراكم الوعي واستفزازه في الوقت نفسه. لأنه ليس من الكتَّاب الذين على علاقة وثيقة بسطح الظواهر والأشياء، وحتى سطح الحياة وما يمور فيها. إنه يحفر عميقاً في كل ذلك؛ ستجد في روايته حزمة من المعارف، من دون أن يهمِّش المتعة ووعيه بضرورة حضورها، لكن ليس على حساب تعميق الوعي وتكثيفه. كتب فيما كتب ذات بحث وحفْر، وبعيداً عن قارته؛ إذ لا يحدُّ المكان الذي ينتمي إليه من إمكانات مدِّ رؤاه قبل بصره إلى مكان قصيٍّ؛ قد لا يوجد مُشترك يستأهل كل هذا العناء والدرس: «مُلصق يعرض مثلاً من إفريقياً: إذا لم يحصل السُّود على مؤرِّخين فإنَّ تواريخ الصيد ستُمجِّد الصياد». في ملامسته وانكبابه أيضاً على كتابة وقراءة درس المُهمَّشين، فهو كاتب المهمَّشين بامتياز، وبعمق ليس عصيِّاً على الفهم؛ إذ هو على العكس من ذلك في أكثر ما كتب، تتويجاً له بالسخرية اللاذعة التي تهزُّ الكيان البشري، مادام فيه أثر حس.
وبمناسبة الكلام على الحسِّ، علينا أن نتذكَّر أنه كتب في مساحات لا تُحصى من التجليات في معظم إصدارته «ذلك الوجه الذي بلا دموع كان الحربَ كلها والألمَ كله»، بذلك التماس مع الشعر، وهو يبحث ويسرد. كأن الشعر ورقته الرابحة، والمدوزنة لأي عمل إبداعي، وحتى بحثي يشتغل عليه.
وليس من فراغ القول، إنه لا يمكن لدارس أو قارئ لأدب أميركا اللاتينية أن يغفل أو يتجاوز غاليانو وعدداً من أعماله الشهيرة ومن بينها: «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية»؛ حيث تقصِّي سيرة المكان، هذه المرة لا البشر وحدهم، وليس أي مكان، إنه «قارَّة»، بكل ما تعنيه من تنوع وتعدُّد وتشابك في الثقافة والعادات والتقاليد والرموز والأساطير، وحتى الاقتصاد، من مفتتح التاريخ وليس انتهاء بالاجتماع والسياسة. «الشرايين»، الكتاب، الذي يقدِّم من خلاله عرْضاً وتشريحاً لذكريات في القارَّة، وتوغُّلاً في ملامحها، واستشرافاً لمستقبلها. ولا أعتقد أن «كتاب المُعانقات» سهل على النسيان، أو يمكن للإغراء أن يذوي، حنيناً للعودة إليه مرة ثانية وثالثة، بما يحفل به من قدرة فائقة على تحويل المفارقات إلى واقع يتم صوغه من خلال حكايات ساحرة في رمزيتها، والوقوف على الأحلام، البسيطة منها وتلك الموغلة في الغموض، من دون أن نغفل جوانب من السيرة الذاتية، التي يمكن لها أن تكون في وجه من وجوهها «سيرة ذاتية» تبدأ به ولا تنتهي ببلده والعالم، ولن يتأتَّى ذلك إلا بامتزاج رؤية تجد العالم كل العالم مكانها الأول، في تأكيد يكاد يتكرر، وبأساليب متحولة لإمكانات الجنس البشري.
لا تملك إلا أن تعود لما كتب. كل كتابة عن عوالمه تخلو من الاستشهاد، تكاد تكون ضرباً من الحديث في برِّية موحشة، وعليك أن تؤثِّث تلك البريَّة ببعض من رؤاه، ونثره الساحر كي تطرد تلك الوحشة وأرواحها. يكتب: «في البرازيل، سأل الفلاحون: لماذا يوجد أناس كثيرون بلا أرض؟ على رغم وجود أراضٍ كثيرة بلا ناس؟ فردُّوا عليهم بالرصاص»، واضعاً القارئ أمام حالات من التقاطع، وحالات من المفارقات التي تكاد لا تخلو منها أي من إصداراته؛ في تركيز على الكائن البشري، يقدِّم من خلاله تشخيصه الخاص، وإن بدا مُعلَّقاً في مهبِّ ملهاة يعرف أنها لن تنتهي.
هل علينا أن نقف أمام «مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالم»، بتلك الجولة التي يأخذنا فيها إلى جهات الله الأربع؟ تمحيصاً وتأملاً في تاريخ أمم وشعوب العالم القديم في الشرق: الصين، اليونان، سورية، مصر، العراق، فارس، إفريقيا، وأميركا اللاتينية والشمالية.
وتضعنا العودة إلى ما تم الاستشهاد به في صدر هذه المقالة «ذلك الوجه الذي بلا دموع كان الحربَ كلها والألمَ كله»، أمام الكمِّ الهائل من الحساسية الواعية والمنتبهة التي تسِم كتاباته بحثاً، وسرداً، وملامسة للتاريخ؛ ليس انشغالاً بتفاصيل أحداثه، بقدر ما هو الانشغال بمركز وعصَب تلك الأحداث: الإنسان الذي يحتاج إلى أن يكون بدموع، كي يؤمن عملياً بأن الحرب لن تعِدَه إلا بالألم، ساعتها سينشغل عن الكثير من إنسانيته.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5222 - الجمعة 23 ديسمبر 2016م الموافق 23 ربيع الاول 1438هـ