الأذكياء هم الذين لا يُؤجِّلون الجميل من الكلام والمشاعر الصادقة للذين يُحبِّون. لا أحد يملك التحكُّم بثانية في الحياة. لا أحد يدَّعي القدرة على إكمال تحيته، والمشي في الأسواق، وقراءة ما جلبه من مكتبات الدنيا قبل أن يفاجئه الموت.
نُهمل ما نعتقد بأنه التافه من الكلام والالتفات، ونجهل أن أثر ذلك على الذين من حولنا لا حدود ولا حصر له. يمكن أن يحوِّل بعض ذلك الكلام تعاستهم إلى أعياد، وشقاءهم إلى نعيم، وربما العكس.
كل ذلك بمحاولة الالتفات إلى تفاصيل ما يشعرون به، وما يشغل بالهم، وأحياناً لا يعرفون له سبباً. ربما بدءاً بالكلام الذي ينعش النفس والروح، بأن الذين نحبهم هم مركز العالم بالنسبة إلينا. على الأقل العالم الذي يجمعنا. أن نلتفت إلى ملامحهم وما يقولون. أن نُشعرهم بأن غيابهم جارح، وحضورهم أكبر من الأعياد. أن نتفقَّد. أن نحنَّ وأن نشتاق وألَّا نتردد في أن نُعبِّر عمَّا نشعر به تجاه من نحبه. أن نملك شجاعة الاعتذار لم نحب حين نخطئ. أن نتنازل في حال التوتر. أن نأوي إلى فراشنا وكشف حسابنا غير طاغ بإساءة أو تجريح للذين نعرفهم والذين لا نعرفهم. ألَّا نؤجل تصحيح وتقويم ما ارتكبنا من بشاعات إلى اليوم التالي، فلا أحد منا يملك أمر نفسه وتنفُّسه.
يُعيدنا ذلك إلى رسالة وداع الروائي الكولومبي، حائز جائزة نوبل في الآداب، جابرييل غارسيا ماركيز إلى محبيه في العالم؛ حيث نقرأ في جوانب منها: «ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم. فلا تنتظر أكثر، تصرَّف اليوم لأن الغد قد لا يأتي، ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على مَنْ تحب، اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم».
ليس علينا أن ننتظر أن نُقرَص من الوحدة ربما... الشيخوخة التي لا تستأذننا... مرض يمارس خديعته وعربدته في أنحاء الجسد. كل ذلك وإن قرَّب إلينا الذين نحب، وإن استدعاهم وهم في البعيد... البعيد عن مجاورتنا... وإن وضعنا أمام طيشنا المُهلك، إلا أنه ليس معياراً وليس اختباراً يمكن أن نقبل بتحكُّمه في طبيعة تلك العلاقات، إن لم تقُدنا إلى مزيد من العبث، ومزيد من الجنون، ومزيد من الخسارات وتراكم الأذى.
الغد الذي يأتي يعلِّمنا ألَّا نؤجِّل ما يسمو من مشاعرنا، ويأخذ بنا إلى اللائق من المكان في القلوب. الابتسامة التي تراها ليس ذات معنى، ربما تختزل كل معاني العالم بالنسبة إلى من يستقبلها. ربما تعني إعادة الاعتبار لك، له، وللحياة كلها.
في التفاصيل التي تبدو بسيطة، حين تتبدَّى وتبرز تبدو عملاقة، ويبدو الذين يقفون من ورائها عمالقة، بذواتهم البيضاء، وأرواحهم التي لا تعرف الشيخوخة، ولا تعرف خريف النهايات والعمر. يكتب ماركيز بتلك الشاعرية الفذَّة، وكأنه من مُعمِّري العالم. الحكمة تمنحك أعماراً في كثير من الأحيان. تغذِّيك بعمر الحكمة نفسها. العمر الذي لن يعرف يوماً التلاشي والغياب. وناقصو الحكمة، ناقصو أعمار بذلك المعنى. الأعمار التي لا حدود لها في اكتشاف كنوز المحبة، ولا حدود لها في الإعراض عن تلك الكنوز يكتب: «لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، ليس فقط عاري الجسد وإنما عاري الروح أيضاً. سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفل سأعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلّم التحليق وحده. وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان».
يضعنا أمام الدرس الذي تعلَّمه من البشر... منَّا؛ بدءاً بالتفاصيل الصغيرة التي لا نوليها أدنى اهتمام، فيما هي تحدِّد في كثير من الأحيان اتجاهاتنا ومواقفنا، وخياراتنا الفارقة والمصيرية في أحيان أخرى. في الصعود إلى ما يراكم سمو المعاني لدى أي منا. في معنى أن تقف، ومعنى أن تنحني لضرورة حياتية لا تبخسك حقك في السمو. في السر الغائب والغامض فيما نراه سعادة، بينما يراه الآخرون شقاء، وخصوصاً إذا كان على حسابهم، وعلى حساب حصتهم الشحيحة من تلك السعادة. لهذا يختزل لنا في رسائل وداعه إلى محبيه في العالم، تلك الحكمة التي لا تظهر هذه المرة من أعماله الروائية المُدهشة، بل هذه المرة من حكمة خارج شروطها وقيودها وأطرها، حيث هي متدفقة بتلك العفوية التي تبدو بكْراً لأنها حارَّة وصادقة، وتُتوِّجُه صديقاً ومُحبِّاً عالمياً للبشر كل البشر.
«لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر... تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه. تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرَّة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5220 - الأربعاء 21 ديسمبر 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1438هـ
فعلا استاذ
شكرًا لك أستاذ جعفر على هذا المقال الرائع الذي يثير الحب في صميم أنفسنا، ويشحذ الهمم نحو من نحبهم، ويستحث القلوب على ممارسة فعلها التي خُلقت من أجله، وينشّط مشاعرنا نحو حقيقتنا الإنسانية التي لو لا الحب فيها لما كان لها معنى ... أكرر شكري وتقديري.
عبدالنبي مرهون
حبيت
جميل كالعادة - ارفع لك القبعة حقا مقال يستحق القراءة وسط هذه الفوضى