حين أعلنت الولايات المتحدة الحرب على أفغانستان سكتت دول العالم. الصمت كان الجواب الوحيد حتى عند تلك الدول التي لم تكن موافقة على القرار. آنذاك كانت أميركا في قمة غضبها وكان عليها أن تثبت أنها قادرة على توجيه ضرباتها وتسديدها في أي مكان وأية جهة.
العالم (وتحديدا دول أوروبا) لم يكن بيده خيارات أخرى سوى الانتظار وترك المسألة للوقت، فالزمن هو الكفيل بتجاوز الألم وغير ذلك لا سبيل سوى البكاء على أطلال 11 سبتمبر/ أيلول.
حتى بريطانيا التي أعلنت في الأسبوع الأول في تصريحات أطلقها رئيس حكومتها طوني بلير أن بلاده لن تنجر إلى معركة بجانب الولايات المتحدة قبل الحصول على معلومات ثابتة تشير إلى مسئولية (طالبان) و(القاعدة) عن الحادث الفظيع الذي وقع... فضلت السكوت بل سايرت جموح واشنطن واندفاعها نحو الثأر من قبيلة قيل انها تمثل قمة التخلف في رؤيتها للعالم وتصورها للمرأة ونظرتها إلى التقدم.
كانت نتائج المعركة محسومة سلفا وساد الاعتقاد بأن الولايات المتحدة لن تقبل بأقل من الانتصار الكاسح والساحق. فمثل هذا الانتصار المدوي هو الوحيد الكفيل بمسح الألم من الذاكرة.
لم يكن، إلا المجانين، على قناعة بأن قبيلة البشتون ستنتصر في معركة استعدت لها واشنطن لمدة أكثر من 50 سنة وأعدت لها كل المعدات والأدوات لمحاربة دولة عظمى (الاتحاد السوفياتي) اختفت من الخريطة السياسية قبل حصول موعد المواجهة معها. فالجيش الأميركي مجهّز لمواجهة جيش الكرملين وليس مجموعات متفرقة من العشائرية المنقسمة تحت «مظلة» البشتون. وانتصرت أميركا واتبعت قبل دخولها كابول سلسلة تكتيكات لعزل كل القوى والدول المجاورة للبشتون. أوهمت باكستان أنها تريد ضرب مواقع القاعدة وطالبان في جنوب أفغانستان وستترك قواتها ثابتة في الشمال خوفا من استغلال المعارضة الأفغانية ضعفها. تركزت الضربات الأميركية بداية على الجنوب فنقلت (طالبان) و(القاعدة) قواتهما إلى الشمال وحين استقرت أسقطت عليها قنابل (سبعة أطنان زنة الواحدة منها) فانفتحت الطرق أمام المعارضة الشمالية واقتحمت العاصمة.
الانتصار السريع والسهل على البشتون أشبع العالم ولم ترض به أميركا. فهي رأت بعد دخولها العاصمة الأفغانية أن هذه الضربة لا تساوي تلك وان مشهد الاقتحام لا يضاهي مشاهد انهيار «مركز التجارة العالمي».
أميركا انتصرت والبشتون ربحت. هكذا قرأ البنتاغون صورة الموقف بعد انقلاب الوضع في أفغانستان ومجمل دول آسيا الوسطى.
ولأن أميركا دولة تجارية في الدرجة الأولى، فان الربح بالنسبة لثقافتها الرأسمالية أبلغ من الانتصار. الانتصار مؤقت بينما الربح يستمر إلى وقت طويل. بعد الانتصار على البشتون اتجهت أميركا نحو حسابات الربح... ورائحة النفط.
فهي تريد أن تستكمل دائرة الانتصار بدائرة أوسع وأوسع وأوسع... إلى أن شملت 20 دولة ثم 40 ووصلت العداد الأميركي إلى 60 دولة يرى البنتاغون أنها تضم شبكات لتنظيم القاعدة. وحتى تعطي ذريعة لتلك الحرب الدولية الشاملة التي لم تميّز بين الصديق والعدو والبعيد والقريب أطلقت وسائل الاعلام الأميركية سلسلة معلومات متناقضة عن مصير طالبان وقادتها والقاعدة وأنصارها. وأوعزت لكل المسئولين بتوزيع اشارات مبهمة عن الملا عمر وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم من أسماء وقادة. مرة تعلن المعلومات مقتلهم، ومرة تعلن مقتل نصفهم، ومرة تقول ان هؤلاء نجحوا في الفرار.
إلى تلك المعلومات عن وجودهم أو لا وجودهم. أطلقت سلسلة تصريحات أشارت إلى معلومات متناقضة عن أمكنة فرارهم. مرة تقول إنهم في أفغانستان، ومرة في باكستان، ومرة في الشيشان، ومرة في إيران أو العراق.
وكل دولة يلفظ اسمها كانت تصوب إليها المدافع وحين ترد بالنفي أو تستجيب للوعيد والتهديد ينقل المدفع إلى اتجاه آخر.
تحول البشتون من قوة مطاردة إلى «طُعم» يتم به اصطياد كل قوة في العالم مخالفة للرأي الأميركي. فأي دولة (غير أوروبية) تعارض السياسة الأميركية يعلن عن وجود خلايا للقاعدة في أرضها وشبكة تابعة لطالبان.. وأحيانا كانت التهمة تصل إلى حد القول ان بن لادن موجود فيها والملا عمر في طريقه إلى الالتحاق به.
تحول قادة (طالبان) و(القاعدة) إلى «مسدسات» تستخدمها أميركا لاطلاق نارها. ثم تحوّل هؤلاء إلى «نجوم» يظهرون في أفلام «الجزيرة» مرة بصورة من دون صوت، ومرة بصوت من دون صورة، ومرة بالصورة مع الصوت. وفي كل مرة يصوّب مدفع (طالبان) و(القاعدة) إلى جهة معينة، وتريد أميركا رفع «الصوت» في وجهها لتخويفها، أو يرفع «السوط» في حال لم تستجب للصوت
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 35 - الخميس 10 أكتوبر 2002م الموافق 03 شعبان 1423هـ