ينكبُّ الباحث والكاتب البحريني حسن مدن على واحد من المشاريع المُغفلة، على الأقل في منطقتنا، من بين ملامح تلك المشاريع، عدم الخضوع لآليات الكتابة باعتبارها كليشيهات لابد من اعتناقها، وفي الوقت نفسه محاولة فهم مؤدَّيات تلك الكتابة باعتبارها تعبيراً، في جانب من جوانبها عن الآخر، وليست تعبيراً عن صاحبها، وإن أخذت القسط الأكبر من ذلك، إلا أنها تعبير عن الآخر، وليس الآخر بالضرورة هنا المختلف عنك، قد يكون الذي يشبهك طالما أنك تكتب لمتلقين وليس إلى أشباح. وهنالك أيضاً اشتغال على مؤديات القراءة، باعتبارها أحد منابع الوعي وركائزه.
في كتابه الجديد «للأشياء أوانها... ما تيسَّر من الأهواء والحواس»، الصادر عن دار مسعى، و «العنوان للنشر والتوزيع»، يؤسس لوعي بالكتابة من دون تغميض، بما يمتلكه من جمال في الأسلوب وأناقة في العبارة، وتقديم آسر يتخذه مدخلاً للفكرة التي يريد الاشتغال عليها. هو هنا في كتابه الجديد لا ينأى كثيراً عن إصداره السابق «حبر أسْوَد»، وإن كان في الإصدار الذي بين أيدينا يُفرد مساحات أكبر للفكرة، من حيث إشباعها بتناولات، الغالب منها حسي، وقريب من اهتمامات القرَّاء، والبشر عموماً.
ما يُحاول أن يقدمه مدن في كتاب « للأشياء أوانها... ما تيسَّر من الأهواء والحواس»، نظر آخر لما قرأناه ربما. وهو لا يقدم هنا اقتراحاً لكيفية القراءة، بقدر ما يقدم صيغة أخرى لمراجعة ما قرأناه. اقتراح صيَغ لتلك القراءة والنظر إلى الكتابة بعين أخرى، وبمدارك أخرى، ربما فاتتنا، وخصوصاً في القراءات التي لا تنجو من السأم، وإن كانت ممتعة في محتواها. الكتاب أيضاً مليء بالتأملات التي تتعدَّد ضمن فضاءات هي الأخرى متعددة، تبدأ بالقريب منا... الإنساني... الاجتماعي والفلسفي، ولا تنتهي في ثنايا الكتاب بتساؤلات بعضها يمس صلب الوجود ولحظتنا الراهنة.
ألَّا نكتفي بالمباشر مما يقدَّم لنا من أعمال، وبالمناسبة ليس المؤثر والبارز فحسب؛ إلا أن الكاتب في النهاية يقدم مقترحاً، ونظراً آخر يضاف على ما أرادته تلك الأعمال وأصحابها.
ما يجب الالتفات إليه أيضاً أن مدن - مرة أخرى - لا ينأى كثيراً عمَّا قدَّمه في «حبر أسود»، وكأنه هنا يعمد إلى استدراك ما لم يختْره أساساً هناك، وكان حاضراً، بحكم محدودية صفحات أي مطبوع، لكنه هنا يقدِّم لنا بعض المراجعات والمفاهيم بعمق أكبر، وبتأصيل أوضح، من دون أن يمارس أي نوع من الاستعراض المجاني أو الفذلكة، أو التعالي على القارئ. يقدِّمه ما أمسك به من أعمال، ما تمكَّن من نظره إلى بعض المفاهيم والظواهر بأسلوب سهل لا تملك إلا أن تكون في حال انشداد معه.
السيرة الموازية
في «الأشياء التي لم نفعلها»، يكتب مدن: «برواية الأشياء التي لم نحققها يمكن أن نكتب لأنفسنا سيرة موازية لسيرتنا المتحققة. سيرة مفترضة؛ لأن الحياة كان يمكن لها أن تأخذنا نحو هذه السيرة المفترضة، وتجعل منها حقيقة لا افتراضاً أو وهماً أو مجرد رغبة؛ لأن بعض التفاصيل والملابسات الصغيرة أو الكبيرة، كان يمكن أن تغيِّر مسار الحياة برمَّته، أو على الأقل في مفاصل رئيسية من هذا المسار».
الأشياء التي لم نفعلها بتجربة السيرة، لا تبدو تلك الأشياء وكأنها أفلتت منا. السيرة تعمل عملها في تحققها؛ ليس بالضرورة من الشخص نفسه. تتيح السيرة الموازية لبشر آخرين تلمُّس طرق لتحقيق ما أجَّلوه ربما، أو وجدوا فيه عنتاً وطاقة لا يقدرون عليها، وليست متوافرة لديهم.
السيرة ليست سرد حياة؛ إذ تظل في جانب منها سرد حياة هي برسم التأجيل أحياناً، ربما من خلال تخيُّلها، لكن أوانها لم يفت، على الأقل للذين سيجدون في تلك السيرة منافذ وحيلاً لبلوغ ما استعصى عليهم، أو كما بدا أنه عصي على البلوغ.
يقدم لنا مدن قراءة تذهب إلى أبعد من مفهوم تعالجه وتتناوله، أو قضية يفرد لها صفحات عديدة. يقدِّم ما هو أقرب إلى القرَّاء على مختلف مستوياتهم وإدراكاتهم ووعيهم. يدخل الوعي الفردي في تجربة التوحد مع الوعي الجمعي. الاشتغال على المشتركات واليوميات وكل ما هو موضوع درس وتجربة لأي منا، وحتى لأولئك الذين لم يخوضوا الدرس، إلا أنهم يجدون في كثير من صفحات الكتاب فرصة كي يخوضوا تجاربهم الخاصة، إن على مستوى تدارك ما فات من مدِّ وعيهم بكثير من أسباب نضجه واستوائه. ألَّا يكتفوا بظاهر الأشياء وسطحها. أن يتوغلَّوا وبعفوية في الوقت نفسه في تناولهم ونظرهم للظواهر والمفاهيم والأشياء. الأشياء التي لم نفعلها، وتلك التي فعلناها، ولكن ربما بدرجات أقل مما يمكن لنا أن نفعلها.
شبابيك الرجاء
في تأمل أحوالنا ومصائرنا، قبل تأمل أحوال ومصائر الآخرين، حصانة لنا كي نقترح أساليب واشكالاً من تلك الحياة، تجعلنا في منجاة من الضياع، ومنجاة من الفراغ، ذلك الذي يفتك بالأرواح. والذين يفتقدون لحظات التأمل هم في عنَت وضيق، ذلك أنهم نهب لتلك الحياة التي تحولهم إلى أدوات لتحقيق ما يجعلهم على قيد الحياة فحسب. هل ثمة حياة في تلك النوعية من الحياة أساساً؟ ضمن تلك الفضاءات يضعنا حسن مدن بمراس ودربة ودراية في كتابته «شبابيك الرجاء»؛ حيث يكتب: «من النادر أن تسعفنا الحياة بلحظات للتأمُّل والتبصُّر في أنفسنا، في ما نريد وما لا نريد، في الذي أنجز من طموحاتنا والذي لم ينجز، بل ربما تعيَّن علينا أحياناً أن نصدم أنفسنا بالسؤال القاسي الصعب: من نحن وماذا نريد»؟!
كأن لا شبابيك يمكن لنا أن نطل عليها للنظر إلى تلك الحياة بواقعية وعمق في الوقت نفسها، إلا من خلال التأمل وفحص ما الذي حققناه، وما الذي لم نحققه بعد. مثل تلك المواجهة مع النفس، هي ضرب من ضروب التأمل الضائع والمفقود في زمننا هذا خصوصاً. كأن طبيعة هذا الزمن بوفرة منصات الإشغال والانشغال، تأخذ الإنسان بعيداً عمَّا يمكن أن يحصِّنه، ويفتح له آفاق وأبواب إعادة النظر في تلك الحياة التي اطمأن إلى استوائها، بينما هي ترمي بنا على حدود المكر والوهم. الوهم بأننا استوينا على وجودنا، دون فحص حقيقي لطبيعة ذلك الوجود.
غاليانو وتأملاته
وعن كرة القدم وكتاب إدواردو غاليانو «كرة القدم... بين الشمس والظل»، ذلك الذي تعرفت عليه في أواخر ثمانينات القرن الماضي، ثمة وقوف على الكثير من المتعة والتأملات التي ربما فاتني الوقوف عليها، كما فاتت غيري، ممن فتح أمامه ذلك الكتاب رغبة لا حدود لها في تتبُّع ما تمت ترجمته إلى العربية، ومن بعد ذلك قراءته مترجماً إلى الإنجليزية. يشير مدن في ثنايا وقوفه على إضاءات من الكتاب إلى «قدرة غاليانو على جعل موضوع اللعبة الأكثر شعبية في العالم موضوعاً أدبياً مكتنزاً بالتأملات الذكية والإيحاءات التي لن تنجو من سحرها»، بحيث تذهب إلى اللعبة الشعبية الأولى في العالم بوصفها تجسيراً للعلاقات بين البشر، وبقدرتها على وضع البشر في مساحات من الحياد، وإن كان حياداً مؤقتاً، لكن الزمن كفيل بتعميقه. تلك «الكروية» التي تأخذنا في جانب من التأملات إلى مساحة من التذكير بحقنا الضروري في اللهو، على هذه الأرض التي كثيراً ما تنتزعنا الظروف المحيطة بنا من تلك الحصة، انشغالاً بالدفاع عن الحياة وحقنا في الوجود. اللهو جزء لا يتجرأ من الوجود نفسه، ومن دون ذلك اللهو تعاني الحياة من عطب وإشكال وجودي في الوقت نفسه.
ومن هذا الباب نقف على تأمُّلات مدن، بقدرة عولمتها على إدخالنا في المساحات الفطرية التي كثيراً ما ننسلخ منها، ولأكثر من سبب، من بينها أن البشر حين يكونون مشدودين ومترقبين، ومحاصرين بقلق لانهائي، لا يمكنهم أن يحظوا بمساحة التأمل التي تعمل على ترتيب حياتهم، بمزيد من التأني في مواقفهم ومراجعة أفكارهم.
من الإضاءات والتأملات التي يضعنا أمامها مدن قوله إن «عولمة الكرة توحِّد العالم على أساس فطري - إن جاز القول - وتبرهن أن العالم قادر على أن يتوحَّد من دون إملاء للشروط من طرف على طرف، وأن يدخل في منافسات خاضعة لقواعد متفق عليها تسري على الدول الكبرى، كما تسري على الدول الأصغر».
تلك اللعبة قادرة على أن تمارس تأثيرها بما يتجاوز خريجي كليات العلوم السياسية، وباتوا يترأسون الدبلوماسية في بلدانهم، بمزيد من الشطط، ومزيد من الحماقات، ومزيد من الدفع بالتوتر في العلاقات ليكون هو الثرمومتر الذي يتحكم في القادم من قرارات، وسياسات تأخذ هذا العالم إلى مزيد من العنف، ومزيد من الدفع به نحو محارق لا نهايات لها.
مديح الظل
تحت عنوان «مديح الظل غير العالي»، فيه استدعاء ليس فقط لكتاب «مديح الظل» للروائي الياباني جونشيرو تانيزاكي، هو يبرز لي مع فارق التلاعب في العنوان، نص «مديح الظل العالي» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، على رغم الفارق في المناخات، والفارق في منطلق العملين وطبيعتهما. يقدم مدن مراجعة عميقة، ليس وقوفاً على الكتاب نفسه، بقدر ما هو وقوف على تجليات العمل بالنسبة إليه، والتأملات العميقة التي يقدمها لنا؛ إذ يشير إلى أن تانيزاكي يبرز في كتابه «ما للظل من لذة ومتعة»، مستدركاً «لكن الكتاب ليس عن الظل وحده، إنه عن اليابان، اليابان الأخرى التي لا نعرفها، غير يابان السيارات وأجهزة الفيديو والتلفزيون والكاميرات» في تساؤله «أي منحى سيسلكه الفكر الياباني، لو كان مخترع قلم الحبر يابانياً أو صينياً، أي شكل سيتخذه المجتمع الياباني لو لم يتبنَّ أدوات الغرب»؟
بالوقوف على الأشياء الأليفة، على الزمن نفسه، بقدرته على تصييرنا، وذلك النزوع الذي يكاد لا يفارق الكثيرين، إما حنيناً له، أو تجنُّباً له.
وفيما يتعلق بتانيزاكي فإنه، بحسب مدن «يحاول إحياء عالم الظل الذي نبدِّده حالياً، إحياء تلك الأشياء الأليفة التي تبدَّد، هنا لا يعني إعادتها نمطاً لحياة شقت لنفسها مجرى آخر، وإنما إقامة تلك الجزر الصغيرة من الأشياء الآفلة، ذكرى لعالم يذهب في الماضي؛ حيث ليس بوسعه أن يعود».
كتاب يضعك أمام مجاميع من الأفكار والرؤى والمفاهيم، يقدمها بأسلوب ممتع وسلس، هو بمثابة نزهة بعضها مُرهق، وبعضها الآخر مليء بالمتعة والتوْق إلى تتبُّع تلك الأعمال لمن لم يقف عليها، وقليلة هي الكتب التي تتيح لك مثل تلك الفرص، اختزالاً للبحث عنها في جهات الله.