يُعد معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الأعرق عربياً في تنظيمه بين معارض الكتب العربية، وقد شددت الرحال إلى العاصمة خلال الأسبوع الماضي خصيصاً لزيارته بضعة أيام، لأول مرة في حياتي، متحفزاً بمرور 60 عاماً على تأسيسه، وبما كُتب عنه مسبقاً في الصحافة ووسائل الإعلام العربية، واللبنانية بوجه خاص، من حفاوة واستعدادات له كحدث ثقافي استثنائي.
ويعود تأسيس معرض بيروت للعام 1956 في ذروة تنامي المد القومي العربي بمبادرة من «النادي الثقافي العربي»، واُقيم في قاعة صغيرة تُعرف بـ«وست هول» بالجامعة الأميركية، وظلت هذه القاعة تستضيفه طوال عقد ونيّف، قبل أن يتطور ويتسع حجمه لينتقل إلى قصر الأونيسكو، ثم إلى جامعة بيروت العربية مؤقتاً، ثم يعود إلى الأونيسكو ثانيةً، ثم إلى ساحة الشهداء المعروفة بمساحتها الأوسع، ليستقر به المطاف أخيراً في قاعات المعارض الكبرى في بيال منذ 2004.
وفي السنوات القليلة الماضية، لفت نظري ما نُشر عن ملمح لضمور الإقبال الجماهيري عليه؛ لكني لم أكن أتخيّل البتة أن يصل تدني أعداد زوّار المعرض كما لمسته بأم عيني، بحيث يصل إلى ما دون المستوى المتوسط المقبول على الأقل، على عكس معارض القاهرة ودمشق وبغداد، بل وحتى معارض دول مجلس التعاون الدولية ومنها البحرين، والتي عُرف عنها جميعها بأنها تعجّ بأعداد كبيرة من الزوّار. وكان أن عبّر عن هذه الحقيقة المريرة كتّاب ومثقفون لبنانيون كٰبار، رصدوا هذا الملمح المؤلم والمؤشر على تراجع الاهتمام بالقراءة والثقافة في وطننا العربي. ففي غداة معرض العام الماضي كتب الناقد الأدبي في صحيفة «السفير» عباس بيضون متقصياً مسببات ذلك العزوف: «ما الذي يحمل الآلاف على أن يذهبوا لزيارة معرض الكتاب وهم قلما يهتمون بالكتب؟ وقلما يقرأون وربما قلما يشترون كتباً، ما الذي يدعوهم إلى هذه الزيارة؟ ليست بالطبع نشاطات المعرض التي تهمهم أقل من الكتب والتي قلما يحضرونها. السؤال لا يجد بسهولة جواباً، ولا يمكن بسهولة أن نستخرج منه عبرة أو نستخلص منه درساً».
رئيس تحرير مجلة «الآداب» العريقة سماح إدريس، جاءت كلماته صريحةً صادمة في تعريتها المأساة التي بات يواجهها المعرض: «هل بلغ المعرض سنّ الشيخوخة؟ لِمَ لا نقول أنه بلغ منتصف الكهولة، وهي غير الشيخوخة وإن حملت شيئاً من نذرها؟». لكن زهيدة درويش جبور، الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو، كانت أكثر مداراة للعرس اليتيم، ومشاعر المشاركين فيه والمعنيين به، فإذا اعترفت بتراجع الإقبال على المطالعة لدى الأجيال الشابة، ووصفت نسبة الإقبال بـ»المرضية»، فقد عزت الظاهرة إلى أن عادة القراءة ينبغي خلقها عند النشء وتربيته عليها منذ الصغر، وأكدت بأن شريحة كبيرة افتراضية من القراء المنحدرين من بيئات فقيرة، بات الكتاب بالنسبة لها من «الكماليات»، ناهيك عن تراجع دخل الطبقة المتوسطة التي اضمحلت، حسب تعبيرها. كل ذلك إنما ينعكس بطبيعة الحال سلباً على اقتناء الكتب، وتراجع الإقبال على المطالعة.
أما رياض الريّس، رئيس «دار الريّس»، فقد عبّر عن المآل الذي آل إليه حال القراءة والمطالعة لدى العرب، كانعكاس طبيعي لحالهم السياسي، بحيث أن الكتاب العربي بات يصدر «في عصر الظلمات».
ولم يكن معرض بيروت هو كذلك في عصره الذهبي، عصر ازدهار الثقافة والإقبال الكبير على القراءة والمطالعة بشغف غير محدود من مختلف الأعمار، حتى في ظل أسوأ الظروف التي مر بها لبنان كالحرب الأهلية (1975- 1989)، ولم يتوقف تنظيمه سوى مرتين، وذلك بفضل إصرار وتحدي منظميه على انتظام هذه الفعالية الثقافية الموسمية الجميلة الكبرى، وبما يحمله هذا الانتظام من دلالات بعيدة المدى في الإحساس بالمسئولية القصوى لأهمية الحدث.
والحق أن معرض هذا العام لم ينقصه أي شيء من مستلزمات الجمال المغرية الجذّابة التي تليق به كعرس ثقافي كبير: ثلاثة أرباع دور النشر العربية الحاضرة هي دور لبنانية مشهورة، ويكفي لأن يكون المعرض بمثابة عرس باهر الجمال، بما تزيّنت به أجنحة تلك الدور بكل ما لذ وطاب من ثمار وأزهار حقول المعرفة بمختلف عناوين الإصدارات الجديدة والقديمة التي تأسر الألباب، والتي لا تجد الكثير منها حاضرة في أغلب المعارض العربية، التي تشارك تلك الدور نفسها فيها لاعتبارات الشحن أو لاعتبارات رقابية؛ ندوات ومحاضرات لمثقفين وباحثين ومؤلفين كبار، توقيع بعضهم لمؤلفاتهم القيّمة الجديدة؛ تنظيم في غاية الروعة يعكس الخبرة التاريخية العريقة التي راكمها منظمو المعرض، بما في ذلك تخصيص ركن لكافتيريا تبيع مختلف صنوف المشروبات والمأكولات اللبنانية الخفيفة الشهية.
بل ما كان ينقص العرس حقاً إلا أهم ركن من أركان نجاحه ألا هو جمهور زفافه الغائب، وبخاصة إذا ما علمنا بأنه حتى النزر اليسير الذي حضر ليس كلهم من المشترين، فمنهم من حضر لإشباع روح فضول التفرج عنده، ومنهم من حضر، على حد تعبير الكاتبة مايا الحاج في «الحياة»، لمؤازرة مؤلف في حفل توقيع كتابه الجديد، ومنهم من حضر للفعاليات الثقافية والفنية المقامة على هامشه، على رغم أن بيضون يرى، وأشاركه شخصياً في رأيه ، أن مثل هذه الفعاليات التي تٰقام عادةً على هامش معارض الكتب العربية، لا تحظى بجاذبية الجمهور الحاضر، وغير مبالٍ بمتابعتها أصلاً.
يُنسب لعميد الأدب العربي طه حسين قوله: «القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ»، وعلى رغم أن هذه المقولة باتت تفتقر اليوم إلى شيء من الدقة، ذلك بأن هذه الحواضر العربية الثلاث تضطلع بالأدوار الثلاثة مجتمعة، كتابةً وطباعةً وقراءةً، إلا أن بيروت هي الأشهر من بينها في الطباعة وحرية النشر، ومع أن العزوف عن القراءة هي حالة عربية عامة، إلا أن تدني الإقبال على معرض بيروت بات يشكل حالةً لها خصائصها المميزة شديدة الارتباط بما مر ويمر به لبنان، من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية انعكس أثرها سلبياً على مزاج الشباب اللبناني، ولعل هذه الظاهرة المؤسفة تنجلى بزوال تلك الظروف .
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5218 - الإثنين 19 ديسمبر 2016م الموافق 19 ربيع الاول 1438هـ