استخلف الله عز وجل الإنسان في الأرض وجعله قيماً عليها، ومن أهم ملامح هذه القوامة أن سخر له سبحانه وتعالى العلم ليطوع مقدرات الأرض في سبيل تحقيق الاستخلاف الذي يقوم في جوهره على عمارة الأرض، وجعلها صالحة للحياة لأطول فترة ممكنة. ولا يكون ذلك إلا من خلال تنمية موردها القابلة للتجدد واستغلالها بشكل عقلاني بما يضمن المحافظة على مواردها القابلة للنضوب.
ولعل إدراك الإنسان لمفهوم التكامل البيئي يعتبر عنصراً مهماً في المحافظة على الأرض واستدامتها إذ على الإنسان أن يدرك أن المكونات البيئية كالماء والهواء والتربة ما هي إلا مقدرات أوجدها الله لضمان استمرارية الحياة بحيث يؤدي الخلل في أي منها إلى انعدام الحياة وعدم تأدية الإنسان للهدف الذي وجد من أجله؛ إذ إن الاستغلال غير الرشيد للبيئية الطبيعية سيهدد وجود الإنسان ويقوض بيئته الاصطناعية التي أوجدها بعلمه. وعليه فإن الإنسان مطالب بتوجيه علمه لابتكار وتطوير كل الوسائل والإمكانيات المتاحة ليتمكن من التكامل مع البيئة الطبيعية التي هي أساس الحياة.
بناءً على ما سبق ولكوننا نعيش في مجتمع متحضر ترتسم ثقافته من أنظمته التعليمية فإنه حري بنا توجيه الأجيال المقبلة نحو أهمية التعايش البيئي والذي يقضي بألا نسيء إلى المكونات البيئية بل نحرص على المحافظة عليها وتنميتها لضمان استمراية التوازن بينها. فمن حق البيئة علينا كبشر أن نحافظ عليها من خلال تطوير المفاهيم العلمية والعملية لحمايتها ولوقف استنزافها، وتطبيق كل السبل الممكنة لترسيخ مبدأ المحافظة عليها وجعله من أهم أولويات أنظمتنا التعليمية والتشريعية وهو ما يمكن تحقيقه بتبني مفهوم التعليم الأخضر الذي يعني التوسع في استخدام وابتكار الحلول والوسائل التعليمية الهادفة إلى إكساب المتعلمين مهارات الحفاظ على البيئة واستدامتها. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التوسع في مجالين اثنين أولهما يختص بالبنية التحتية الخضراء من مبانٍ ومعدات تعليمية، ومصادر طاقة خضراء تتصف بالاستدامة، وثانيهما يتمثل في تبني الاستراتيجيات التعليمية الخضراء التي ترتكز على تطوير مناهج واستحداث تخصصات وأساليب تدريسية هادفة إلى تنمية المهارات البيئية في الطلبة.
ولعله من المفيد في هذا المجال إبراز أهمية التعليم الأخضر بصفته منتجاً عصرياً يسعى إلى تنمية نشئ قادر على تحمل أعباء الحفاظ على البيئة ويتولى تعزيز الثقافة البيئية في داخل المجتمع بما يضمن إيجاد حلول ناجعة للمشاكل البيئية كافة، ويسهم في الوقت نفسه على دفع عجلة التنمية الاقتصادية الخضراء لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة تقوم على مبدأ التكامل بين الاقتصاد والبيئة، وذلك من خلال رفد سوق العمل بخريجين ذوي مهارات بيئية يمكن توظيفها في بناء استراتيجيات خضراء للمؤسسات الاقتصادية. ويسهم التعليم الأخضر كذلك في التنمية الاقتصادية من خلال إتاحة فرص استثمارية جديدة أمام المؤسسات الاقتصادية بما يسهم في تحقيق مبدأ التنويع الاقتصادي من خلال الاستثمار في الوسائل التعليمية الخضراء. ومن جهة أخرى يعتبر التعليم الأخضر فرصة حقيقية للباحثين والأكاديميين للتوسع في مجال إجراء الدراسات العلمية البيئية المتخصصة الأمر الذي من شأنه تحسين مفهومهم لمعنى الاستدامة البيئية والاستراتيجيات التعليمية الخضراء. وكذلك يمكن التعليم الأخضر المؤسسات التعليمية والدول المطبقة له تبوء مكانة أعلى في المحافل الدولية وجعلها أكثر تأثيراً بصفتها ستسعى إلى استحداث واستقطاب الوسائل التكنولوجية الحديثة التي تنسجم مع مفهوم التعليم الأخضر؛ الأمر الذي سيحسن من حجم الطلب على صادرات الدول ويحقق انتشاراً أكبر لخريجي المؤسسات الأكاديمية.
ويمكن تطبيق التعليم الأخضر من خلال تبني واحد أو أكثر من الخطوات والوسائل التالية:
- العمل على تطوير مناهج دراسية بيئية يتم تصميمها بطريقة تسهم في تنمية القيم البيئية لدى الطلبة.
- العمل على تطوير تخصصات أكاديمية ومهنية تعنى بالبيئة كدراسات قانونية بيئية، والمحاسبة البيئية، ونقابات للمحامين البيئيين وغيرها.
- التوسع في استخدام التكنولوجيا الصديقة للبيئة وذلك بإحلالها كبديل عن المقررات الورقية كاستخدام الهواتف الذكية أو الألواح الذكية والسبورات الذكية في المؤسسات الأكاديمية.
- تشجيع الطلبة وتنمية مهاراتهم من خلال إشراكهم في جملة من الأنشطة المتمثلة في إعادة تدوير المواد القابلة للتدوير.
- تنمية قيم المحافظة على المساحات الخضراء وحماية الأشجار وغرسها من منطلق توعوي ديني وتعليمي لدى الطلبة.
- التوسع في تطبيق واستخدام المراسلات والخطابات الإلكترونية كبديل عن الورقية منها في التعامل مع الطلبة وأولياء الأمور، والجهات الرسمية على مستوى الدولة، وفي المراسلات الداخلية كذلك.
- العمل على تطوير جائزة المعلم الأخضر أو المحاضر الأخضر أو الموظف الأخضر أو المؤسسة الخضراء (جامعة أو مدرسة) والتي يتم منحها لمن يبدع في مجالات المحافظة على البيئة وفي تنمية قيمة المحافظة عليها في طلابه أو موظفيه.
- العمل على تطوير الشهادات الإلكترونية والتي يمكن أن يتم تطبيقها واعتمادها محلياً وعالمياً من خلال الأختام والتوقيعات الإلكترونية.
- العمل على تبني شعارات مختلفة كـ «الأرض ملكهم» في الإشارة إلى الأجيال القادمة أو «فكر بذكاء ونفذ بطريقة خضراء».
- العمل على تطوير مفهوم المؤسسات التعليمية الخضراء التي لا تسمح بالتدخين بداخلها، وتعمل على تبني وتطوير وسائل علمية وعملية لاستغلال المكونات البيئية في توليد الطاقة، كتطوير التوربينات الهوائية، والخلايا الشمسية لتوليد الطاقة داخل هذه المؤسسات، والعمل على إعادة تدوير المياه العادمة واستخدامها في ري حدائقها الخاصة.
- التركيز على مفهوم الاستدامة البيئية في المؤسسات الأكاديمية والذي يعني استخدام واستحداث كل الوسائل الممكنة لضمان عدم استنزاف الموارد البيئة واستمراريتها للأجيال المقبلة.
- التركيز على مفهوم المباني والبنى التحتية الخضراء والذي يعني توفير مبانٍ أكاديمية يتم بناؤها من مكونات صديقة للبيئة.
- التركيز على مفهوم المباني المستدامة والتي تعني توفير مبانٍ وبنى تحتية أكاديمية تساعد على عدم استنزاف الموارد البيئية من ناحية الشكل الهندسي للبناء ومن ناحية المكونات.
وختاماً تعتبر البيئة التشريعية ذات التوجه القيمي البيئي من أهم العناصر الضامنة لتحقيق تنمية تعليمية بيئة وهو ما يمكن ملاحظته عند مراجعتنا للتشريعات البيئية البحرينية؛ فقد افرد المشرع البحريني جملة من القوانين البيئية ومراسيم القوانين البيئية التي كان لها الأثر الكبير في حماية البيئة وضمان استدامتها. وكذلك لم يكتف المشرع البحريني في إيقاع العقوبات على المخالفين للقوانين البيئية بل وضع السبل الملائمة لضمان تثقيف المجتمع بأهمية القوانين البيئية كإجراء وقائي للحد من المخالفات البيئية. وعليه فإننا نرى أن البيئة التشريعية البحرينية وصلت إلى مرحلة متقدمة من النضج البيئي الأمر الذي يمهد الطريق نحو البدء في تطبيق استراتيجيات التعليم الأخضر وتشجيع المؤسسات الأكاديمية على تبنيها وتطبيقها لضمان ثقافة تعليمية بيئية مستدامة تسهم في تحقيق الرؤية الاقتصادية «البحرين 2030» بما ينسجم مع رؤية عاهل البلاد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة.
العدد 5217 - الأحد 18 ديسمبر 2016م الموافق 18 ربيع الاول 1438هـ