فيما كان احد الصحافيين العرب الذين يأتون بين الفينة والاخرى يصدر حكما غريبا - بعدما سمع بالمساحة الإجمالية لمملكة البحرين - قائلا أنه لا يمكنه ان يُعد اي بقعة من الارض في عداد الدول ان كانت مساحتها تقل عن الف كيلومتر مربع، نجد انه في الكيلومترات المربعة التي تزيد على السبعمئة بقليل، الكثير من الامور التي تكفينا ان ننكب عليها في محاولة جادة لإعادة استقرائها غير ملتفتين الى «حكم» كالذي اصدره هذا الصحافي.
فالذي حدث منذ ايام قليلة في قرية «المقشع» يصلح ان يكون سيناريو لفيلم وثائقي قصير.
اللوحة الاولى: قرية المقشع، قرية وادعة أنيسة، تصطف فيها البيوت المتماسكة، وتلك المتهالكة، وبين الصفين والصنفين بيوت ستر الله عليها، طرقات بعضها مرصوف والاخرى ترابية، بلاعات طافحة واخرى تنتظر.
اللوحة الثانية: قرية المقشع، تستعد للقاء سمو ولي العهد، تنظيف الطرقات، تهيئة المكان بما جادت به قرائح اهلها، محاولة ابراز اكثر بيوت القرية فقرا وسوءا في الحال المادية، لتفيض يد الخير بالعطاء.
اللوحة الثالثة: المنامة، الاجتماعات تتواصل، والتصريحات تتوالى بعد الزيارة الميمونة بأهمية انقاذ «المقشع» مما هي فيه، قرية نموذجية تخطط في غضون ايام، اعتمادات مالية تخصص، وورشة عمل مكثفة في الوزارات ذات العلاقة لملاقاة التوجيهات السامية من لدن صاحب العظمة عاهل البلاد الذي أمر - على إثر تقرير رفعه سمو ولي العهد - بالحال الذي رأى عليه هذه القرية.
اللوحة الرابعة: لا تزال في علم الغيب.
القصة نفسها تتكرر حينما زار وزير الصحة بعضا من المناطق ليكتشف ان عيادة بعض القرى ليست سوى بيوت مهترئة يعود انتقال العيادة اليه الى الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية بقليل، ومن فوره امر بتجهيز عيادة حديثة، وفعلا حدث ما امر به في بضعة اسابيع، والامثلة على ذلك اكثر من ان تعد وتحصى.
الامر ليس كما حاول احد القراء (ارسل رسالة عبر البريد الالكتروني) ان يلمز من قناة ان هناك تفضيلا او اهمالا يقوم على اساس طائفي، اي ان كل القرى والمناطق المهملة تسكنها غالبية شيعية، بينما كل المناطق المنعمة تسكنها غالبية سنية، لأن زيارات الى المناطق ذات الاستقرار لكلتا الطائفتين الكريمتين تنبئ عن وجود خلل رئيسي في التعامل مع المد التطوري للعمران.
هنا يمكن التوقف امام نقاط ودروس، لتطبيق مقولة «السعيد من اتعظ بغيره». فواحد من التفسيرات التي صاحبت ظاهرة ما اسمي بالاصولية والتطرف الذي ألمّ بمصر، يقول ان مردّ هذا الاتجاه لدى مجموعة غير قليلة من الشباب اساسه العيش في الاماكن العشوائية على اطراف المدن، في عشش فقيرة واحوال معيشية بالغة القسوة. الياس دفع هذا النفر من الناس المتوسطي التعليم الى ان «يكفروا» بالفطرة التي فطر عليها مجتمعهم.
الحال لدينا شبيهة - تقريبا - بحال اصحاب المساكن الشعبية في مصر، لو تم التمعن في المناطق التي خرجت منها اكثر المظاهرات في منتصف التسعينات، كانت المطالبة بـ «البرلمان» والقول بانه «الحل» الشعار الاكثر قدرة على اخفاء اليأس الذي بلغه هؤلاء الشباب في التكيف مع الواقع حينما يرمون بابصارهم على بعد بضعة كيلومترات فيرون حياة اخرى اكثر رغدا وتماسكا ماديا - على الاقل - تتشكل على مقربة منهم، افضل من التي يعيشونها، ولا يستطيعون اليها وصولا. هذا بجانب البطالة التي كانت تستشري بين اوساط الكثير منهم؟
وما لا يقل اهمية عما تقدم ، هو السؤال الموجه الى الاجهزة التنفيذية التي ظلت تعمل، بالكادر ذاته - تقريبا - منذ الاستقلال حتى اليوم: هل كانت «المقشع» لتحتاج الى زيارة من سمو ولي العهد حتى تتكشف ابعاد مأساتها، والتي ربما تعد «رأس الخيط» لمجموعة من المناطق التي تحتاج الى اعادة تخطيط اساسية قبل ان تنفجر بمن فيها، وتنهار على من فيها من البشر؟
ما حدث من حركة كبيرة في اوساط الجهاز التنفيذي عقب الزيارة الميمونة لسمو ولي العهد الى هذه المنطقة، يشير الى خلل واضح في رسم الخريطة التحديثية للبحرين المملكة ككل، لأن ما سيجري الآن لن يجاوز التسارع لحل مشكلة قرية واحدة، وبناء قرية نموذجية مكانها، وربما نقل اهلها من مكان الى آخر، واعادة توطينهم فيها بعدما يتم المشروع. ولكن من للقرى والمناطق والمدن الاخرى التي تحتاج الى ان تكون نموذجية ايضا، او حتى تكون مقبولة لأن تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، ليست كمبان فقط، بل بإعادة تأهيل ساكنيها من عدة نواح سكانية وتعليمية وصحية واجتماعية، للتعامل مع الواقع الجديد الذي يفرض مستحقاته الخاصة؟
ان اعادة بناء «المقشع» من جديد سيكون، وبالشكل الذي تبشرنا به الاخبار الرسمية - ربما - شبيه بوجود واحة جميلة وسط صحراء من الرمال فليس من المرجح أن تتمدد الواحة وتكبر، ولكن من المتوقع كثيرا أن تطغى كثبان الرمال عليها، وبالتالي، لن تكون «المقشع» نموذجية ما لم تحط بها مساحات من القرى والمناطق النموذجية لتمتد «النمذجة» بشكل مخطط وواع شاملة معها المناطق الواحدة تلو الاخرى، لتكون هذه القرية - التي ذاع صيتها اخيرا - الحجر الذي رمى به سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وسط مياه راكدة، لتسفر عنها حركة واسعة من الإعمار لبقية المناطق المحيطة، والتي تتسع لتعم المحافظات في وقت متقارب، ان لم يكن متوازيا، بدلا من ان يتم ترقيع الحلول ببناء قرية هنا، واصلاح مجموعة بيوت في الطرف الآخر من البلاد، وبالتالي «تشيخ» النماذج وتصبح حالات غريبة، وسط اكوام من المتناقضات.
ان القول ببناء قرية نموذجية، يحيل في ادراك الفرد الى ان هذا «النموذج» لابد وان يتكرر، حتى يصبح هو المعيار، ولكن «المقشع» الآن هي بؤرة التركيز الاعلامي، التي يتمنى المرء ألا تكون هي النموذج، وهي المنتهى في الوقت ذاته.
فحال قرية «المقشع» ليس بأسوأ - كثيرا - من حال مجموعة من القرى والمدن ايضا، ربما اقل سوءا من مآسي الحورة، وثعابين الازقة في المحرق القديمة، ونقص الخدمات في سترة، مجاري جنوسان، اهتراءات الزلاق، ولكن هذا الاقل يظل نسبيا ايضا.
الحديث يعود - من حيث نريد او لا نريد - الى اهمية وجود الاجهزة المركزية المعنية بالتخطيط بمعناه الشامل، والتي لا تنظر الى المملكة كوحدات منفصلة، بل النظر اليها على اعتبارها وحدة متكاملة، جسدا بشريا، يمكنه ان يعيش اذا كانت بعض اجهزته متضررة، ولكن هذا الجسد لن يكون كالجسد الصحيح الاعضاء، وبالتالي لا بد من معالجة جوانب الضعف فيه بدلا من زيادة قوة القوي منها، وترك الزمن ليحل مشكلات الجانب الضعيف منه، والزمن خصم قائم، لا يحل المشكلات، وانما يزيدها تعقيدا ببطء شديد، وبكسل لذيذ، حتى اذا ما صحا الناس ذات يوم على مشكلة ما اكتشفوا انهم لو عالجوها بالمعالجة في وقتها لما وصلت الى هذا الحد من التشابك، وان الحديث عن «الاسرة الواحدة» سيكون اصدق وقعا اذا ما كانت مشاريع التنمية والاعمار تشع لتعم ارجاء الوطن، فبناء مدن جديدة امر محمود وجدير بالاشادة والمساندة، ولكن اعادة تاهيل المدن والمناطق القديمة على اكثر من وجه من وجوه التاهيل امر لازم. فالاسرة الواحدة لا يتساوى ابناؤها بهاء وذكاء وقدرة، ولكن لا يحرم الدميم والضعيف من ذات العناية الموجهة الى القوي والبهي، بل ربما احتاج الاول الى اضعاف ما يحتاجه الآخر من عناية ورعاية.
ليس عيبا ألا تكون مملكتنا بامتداد الصين، او روسيا الاتحادية، ولكن من المخجل ان نتكلم عن مناطق «نائية مهملة» في ما لا يزيد على 700 كيلومتر مربع الا بقليل
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 34 - الأربعاء 09 أكتوبر 2002م الموافق 02 شعبان 1423هـ