لم تكن الانتخابات البرلمانية المغربية التي جرت يوم 27 سبتمبر/أيلول الماضي مجرد حدث محلي عادي، لهذا تمت متابعتها وأخضعت ظروفها ونتائجها للتحليل والتعليق من قبل دوائر إقليمية ومتوسطية كثيرة. ولعل أهم ما يمكن رصده في هذا السياق الكيفية التي تناولت بها الصحف الفرنسية والجزائرية هذا الحدث. فباريس حساسة جدا لكل تغييرات أساسية قد تحدث في أي دولة من دول المغرب العربي، فما بالك إذا تعلق الأمر بصعود لافت لإحدى التيارات الإسلامية، نظرا إلى الانعكاسات المحتملة لذلك على مجمل العلاقات الإقليمية. أما الجزائر فهي لاتزال تواجه الملف الإسلامي من دون أن تنجح نهائيا في السيطرة عليه ومعالجته بشكل شامل وصحيح.
اعتبرت وكالة (رويترز) أن الصعود القوي لحزب «التنمية والعدالة» الإسلامي التوجه من شأنه أن «يثير مخاوف الحلفاء الغربيين للرباط»، مشيرة في هذا السياق إلى ما راج عن رغبة الإسلاميين في تطبيق الحدود ومنع بيع الخمر واستهلاكه.
لكن وزارة الخارجية الفرنسية أكدت من جهتها أن باريس «سعيدة بالسير الجيد» للانتخابات ووصفتها بكونها «تشكل محطة مهمة في دمقرطة هذا البلد الصديق». ويذكر أن العلاقات الفرنسية المغربية تعرضت في مناسبات كثيرة خصوصا في عهد الملك الحسن الثاني، إلى الهزات بسبب مواقف الصحافة الفرنسية الناقدة جدا للنظام السياسي المغربي. واستمرت تلك الحملات حتى بعد استلام الملك الشاب محمد السادس الحكم اذ هوجم بعنف شديد على رغم الفترة القصيرة نسبيا لممارسته الحكم، وعلى رغم المناخ الديمقراطي الذي صاحب تركيزه لسلطاته.
اما صحيفة «لوموند» ذات التأثير القوي على نخب المغرب العربي، فقد ركزت في تعليقاتها على نزاهة الانتخابات الأخيرة، واعتبرت في افتتاحية خصصتها للتعليق على نتائج الانتخابات المغربية بتاريخ الاربعاء 2 أكتوبر/ تشرين الاول انه «في محيط دولي يتميز بما يشهده العالم العربي من استبداد وظلامية دينية ونزعات عنيفة، أعطى المغرب من خلال صناديق الاقتراع الدليل على وجود حال استثنائية».
ولاحظت الصحيفة أنه منذ سنة 1956 «تاريخ الاستقلال» لم تنظم في المغرب سوى خمس دورات وهذه الوحيدة التي تمت في الموعد المحدد لها في الدستور، ولم تتدخل السلطة في تحوير نتائجها. وأضافت الصحيفة أنه في غياب الانتخابات، أصيبت الاحزاب المغربية بالرداءة، والتبعية إلى السلطة، وغياب الديمقراطية في داخلها. وختمت تعليقها بالقول «كم كان صعبا أن تنتقل المغرب من موقع المثال السيئ إلى الاستثناء الجيد».
وفي مقال آخر مدحت صحيفة «لوموند» الوزير الأول عبدالرحمن اليوسفي البالغ من العمر 78 عاما، واعتبرته المنتصر الرئيسي من الناحية الأخلاقية في هذه الانتخابات، حين نجح في الرهان الذي وضعه على عاتقه عندما وعد بتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، إضافة إلى أنه على رغم أن حزبه (الاتحاد الاشتراكي) خسر ثمانية مقاعد، فإنه بقي يحتل المرتبة الأولى من حيث العدد الاجمالي للنواب في البرلمان. أما بالنسبة إلى موضوع الإسلاميين. فالصحيفة تعتقد بأن نجاحهم النسبة يعود إلى «نقاوة نواياهم المعلنة وبكارتهم السياسية»، إضافة إلى كونهم «لا يعتبرون مسئولين عن التداعيات السلبية للإصلاحات الاقتصادية» التي قامت بها حكومة اليوسفي. كما اعتبرت أن النسبة العددية المهمة التي حصلوا عليها جاءت نتيجة «التكوين المدني أو القانوني الجيد لأعضائهم، اذ بلغت نسبة الأوراق الملغاة عند بقية الأحزاب 20 في المئة بينما لم تتجاوز فيما يتعلق بحزب العدالة والتنمية 3 في المئة». وخلصت الصحيفة إلى الاعتقاد بأن البرلمان الجديد سيكون مقسما بشكل كبير «مما سيمكن الملك من نفوذ أقوى مما كان يتمتع به من قبل، وهذا يعني أن (ثورة صندوق الاقتراع) جاءت متلازمة مع استمرارية قوية في مستوى القصر».
واستعملت صحيفة «لو فيغارو» ذات التوجه اليميني عبارات شبيهة بتلك التي استعملتها صحيفة «لوموند» عندما أكدت في افتتاحيتها أن الانتخابات المغربية أثبتت أنه «يمكن في أرض الإسلام أن تعبّر التعددية عن نفسها بكل شفافية ونجاعة. وخلافا لما كان متوقعا من ردود فعل سلبية عن موضع الإسلاميين، اعتبرت الصحيفة أن أول درس من هذا الاقتراع يتمثل في أن «الإسلاميين موجودون في المغرب» وأنه لو لم يتمكن هذا التيار الذي يعمل ويشق كامل العالم العربي من التعبير عن وجوده في المملكة المغربية، فإن ذلك سيكون أمرا مؤسفا».
ويمكن من خلال التعليقات الصحافية السابقة ملاحظة الآتي:
بارك الفرنسيون الظروف الديمقراطية والشفافة التي جرت فيها الانتخابات المغربية، وهو ما يعتبرونه حال استثنائية تتناقض مع الصورة الثابتة التي يحملونها عن العالم العربي - الإسلامي الذي يقرنونه باستمرار بالاستبداد والتعصب الديني وغياب تقاليد الحوار وقيم التسامح. فالغرب يعتبر أن من بين أبرز شروط تفوقه على بلاد الاسلام ارتكاز أنظمته على الديمقراطية وانحياز مجتمعاته للحرية.
تمسك الفرنسيين بشيء من الحرص النسبي على تطوير مظاهر الديمقراطية في البلاد العربية والإفريقية وخصوصا في دول المغرب العربي. فهزيمة الاشتراكيين، لم تجعل الرئيس جاك شيراك يتخلى نهائيا عن مطالبة أصدقائه في الضفة الجنوبية من المتوسط باحترام قدر أدنى من الحريات وحقوق الانسان، وإن بقي يفضل أن يفعل ذلك بالوسائل التي «لا تفسد للود قضية». فباريس على رغم مجاملتها للأنظمة الحليفة، وتجنب إحراجها، فإنها تؤمن بأن الاستقرارين السياسي والأمني يتعززان بتوفير قدر أدنى من الحريات.
يبدو أن الفرنسيين بقدر خوفهم ومعارضتهم لصعود إسلامي يهدد موازين القوى في أي بلد مغاربي، بقدر ما تستهويهم سياسات إدماج التيارات الإسلامية المتبنية لخطابات غير عنيفة، شريطة أن تبقى هذه التيارات تحت السيطرة، وأن يقع الحد من «غلوها» بالوسائل الديمقراطية، وليس بقمعها وإقصائها. فالفرنسيون لايزالون بعيدين عن التعامل المتشنج مع الاسلام، وظاهرة الإسلام السياسي، التي تورط فيها الاميركيون بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول. ولم يعمدوا كما تفعل واشنطن في الضغط على الأنظمة العربية من أجل تغيير برامجها التربوية، وإغلاق مؤسساتها الدينية، وإن كانوا سيعلنون عن سعادتهم وتأييدهم لو قررت بعض الأنظمة القيام بذلك ذاتيا.
الجزائر ومنهج المقارنة
خلافا للصحافة التونسية التي لم تول أهمية كبرى للانتخابات المغربية ولم تعطها صدارة اهتماماتها، فإن الصحف الجزائرية، وخصوصا تلك التي تتصدر القوى والفعاليات المعادية للتيارات الإسلامية، كشفت عن البعد الاستراتيجي الذي يمكن أن يكتسبه أي تغيير جوهري في المشهد السياسي المغربي بالنسبة إلى الجزائر. لا يعود ذلك فقط إلى استمرار حالات الاحتكاك بين البلدين الجارتين، وإنما أيضا إلى الأهمية القصوى التي لايزال موضوع الاسلاميين يحتلها في الصراع الداخلي الجزائري. فصحيفة «لكسبريس» المعتبرة قريبة من القصر الجمهوري وعبدالعزيز بوتفليقة اعتبرت أن «الحركة الاسلامية السلفية في المغرب تبقى أهم رقم في السياسة المغربية. لهذا، وعلى رغم التباينات الكبرى القائمة بين أوضاع البلدين أصرت أكثر من صحيفة جزائرية على القول إن «المغرب لن تكون في مأمن من المثال الجزائري سواء آجلا أم عاجلا،. فالدوائر التي تقف وراء هذه الصحف لا تتوقع أن تنجح المملكة المغربية فيما فشلت فيه الجزائر، لأنها تعتقد بأن منهج الاستئصال هو الأسلوب الوحيد للتخلص من 'الأصولية الدينية' لكن في المقابل سيمثل أي نجاح للتجربة المغربية دعما قويا للمؤمنين في الجزائر وفي غيرها من البلدان. إن المعالجة الأمنية للملفات ذات الطابع السياسي أو الثقافي قد تخفي أعراض المرض لكنها لا تقضي عليه. وبالتالي فإن ما يجري في المغرب، وما ستؤول إليه الأوضاع السياسية هناك له تأثيراته المهمة على مجمل الأوضاع في الجزائر وفي غيرها من دول المغرب العربي»
العدد 34 - الأربعاء 09 أكتوبر 2002م الموافق 02 شعبان 1423هـ