يبحث كتاب السفير ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق للتخطيط السياسي، محمد نعمان جلال، أوجه التطابق لعلاقات جمعت البلدين منذ العام 1956، وهو بدء العلاقات الرسمية بين البلدين بعد لقاء الزعيمين جمال عبدالناصر، وشوان لاي في باندونج، وذلك في أبريل/نيسان 1955، حيث تم اللقاء بفعل جهود بذلها رئيس الوزراء الهندي وقتها، جواهر لال نهرو. كما تقدم تلك الرؤية حقيقة تقاطعات وبرود شهدته العلاقات في فترات اتسمت بتحولات كبرى في البلدين، وبعض دول العالم.
الكتاب يقدم رؤية واحتياجات كي يتسنى للعلاقات بين البلدين التحرك ضمن آفاق واعدة، بحكم ثقل ووزن البلدين، ودورهما الاستراتيجي، في عالم يحكمه منطق وسياسات التكتلات الاقتصادية والسياسية، والانفتاح على الخبرات والتجارب. الرؤية يلخِّصها السفير جلال في 18 عنصراً سنبرزها في ختام هذا الاستعراض.
تطورت تلك العلاقات بفضل شخصية الزعيمين في فترة سياسية شهدت منطلقات قومية أرساها عبدالناصر في توجه لتحرر العالم العربي وإفريقيا، إلى جانب إيمان وتوجهات لاي «المؤمن بالفكر الشيوعي، وبالعمل السياسي لبناء دولة قوية تستعيد أمجادها».
كان ماوتسي تونغ شخصية أسطورية في بلاده وقتها. عمل الثلاثي (عبدالناصر، لاي، وماو) على تعزيز وتعميق تلك العلاقات، وما عززها بحسب جلال هو أخطاء إقليمية ودولية. ولم تسلم تلك العلاقات من التراجع في بعض الأوقات «نتيجة المُحدِّدات الوطنية لكل من الدولتين، والتدخلات والتحديات والمتغيرات الإقليمية والدولية».
وضع كتاب عن العلاقات المصرية الصينية لم يأت من فراغ، فمؤلفه دبلوماسي وعمل سفيراً لمصر في الصين، وبالتالي هو لا يقدِّم تجربته وخبراته فترة مسئولياته على رأس سفارة بلاده في بكين، وإنما يقدِّم رؤيته إلى ما يمكن أن يثمر عنه تعميق العلاقات بينهما في عالم يشهد تغيرات وفوضى لم تسلم منها جهة من جهات الأرض.
بالثقل الذي تتمتع به الصين باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن، الذي يتشكل من القوى النووية الكبرى في العالم، وبالعمق والتأثير الذي تمثله مصر في العالم العربي وأجزاء كبرى من إفريقيا، على رغم انحسار ذلك الدور في فترة من الفترات، يمكن للبلدين أن يحدثا توازناً مهماً وسط الاضطرابات وصعود تيارات العنف السياسي والإرهاب الذي يريد أخذ منطقة الشرق الأوسط ربما إلى ما بعد المجهول، وليس المجهول وحده، وليس العالم بمنأى عن تلك التيارات العنفية التي امتدت يدها إلى معظم دول العالم، مهددة السلم العالمي، فارضة نوعاً من التحالفات جديداً تقوم على التعامل مع الأمن باعتباره ضرورة كونية وليس ضرورة قومية تعمل كل دولة على تحقيقه بمعزل عن بقية دول العالم.
السفير جلال شارك وشهد صنع ملامح وأحداث تلك العلاقات بين البلدين، وأحد الشهود البارزين في هذا الشأن، ولم يترك ذلك الدور مع خروجه من وزارة الخارجية بعد تقاعده؛ إذ استمر في التواصل مع القيادات الصينية بشكل مباشر.
نتائج العلاقات المصرية الصينية
يوضح السفير والباحث جلال أن العلاقات بين البلدين نتج عنها بعد الاعتراف الرسمي بها، ولقاء الزعيمين، ثلاثة تطورات مهمة في التاريخ السياسي والدبلوماسي المصري، وعلاقات الصين الخارجية، أولها: توسط الصين لدى الاتحاد السوفياتي لعقد صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، رداً على حظر تصدير السلاح الغربي لمصر وقتها.
أما ثانيها، فيتمثَّل في وقوف الصين والاتحاد السوفياتي مع مصر ضد العدوان الذي قادته كل من بريطانيا وفرنسا و «إسرائيل»، وتهديد الاتحاد السوفياتي للدول المعتدية بالسلاح النووي، ما أدَّى إلى الضغط الأميركي لوقف العدوان.
وثالث تلك النتائج، برز في انفتاح إفريقيا والعالم العربي على الصين، ومسار العزلة الغربية التي كانت مفروضة ضد الصين، بقيام علاقات دبلوماسية مع دول عربية متمثلة في كل من: العراق، سورية واليمن، وبعض الدول الإفريقية. لتأتي زيارة الرئيس الصيني هذه المرة إلى الإسكندرية.
الكتاب وضمن صفحات كثيرة منه، يقف عند محطات ممارسة السفير لعمله في السلك الدبلوماسي، مروراً بترك العمل في الخارجية المصرية، وتطلعه إلى العمل في الجامعة ضمن هيئة التعليم، وكان ذلك طموحه منذ حصوله على درجة البكالوريوس، وكان من المتفوقين في دفعته، وما حال بينه وبين أن يكون معيداً في الجامعة التي تخرج منها، وصولاً إلى اتصالات وعلاقات ربطته بسفير البحرين في الصين كريم الشكر، الذي أوصله برئيس جامعة البحرين وقتها ماجد النعيمي، وكذلك وزير التربية والتعليم، ومن بعدها رئيس مركز البحرين للدراسات والبحوث محمد جاسم الغتم.
كل ذلك السرد، يوصلنا إلى نقطة استمرار السفير جلال في مواصلة دوره الذي لم ينقطع، سواء بالكتابة والأبحاث المنفردة، أو تلك التي جاءت مشتركة، وخصوصاً مع محمد الغتم، وكذلك دوره الاستشاري فيما بعد، سواء كمستشار للشئون السياسية للأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، أو غيره من المناصب والمواقع التي تواجد فيها. كل ذلك لم يترك فرصة إلا وتم توظيفها وتسخيرها من أجل مزيد من تعميق العلاقات ليس بين الصين ومصر فحسب، بل امتد ذلك الدور ليشمل عدداً من البلدان العربية التي لا ينظر إليها جلال بمعزل عن منظومة متكاملة، أو يجب أن تكون متكاملة في عالم لن يكون صالحاً للوجود الطبيعي بعيداً عن التكتلات ومراعاة المصالح، فكيف والأمر يرتبط ببلدان ترتبط بأكثر من عامل وتاريخ ومصير مشترك؟
مراحل تطور العلاقات بين البلدين
يقسِّم السفير جلال مراحل تطور العلاقات المصرية في الفترة ما بين 1956 و2015، إلى مراحل ست، الأولى تبدأ من أبريل 1955 إلى 1959، باللقاء الذي جمع عبدالناصر ورئيس وزراء الصين لاي. أما المرحلة الثانية فكانت على النقيض من الأولى، ببروز حال من فتور العلاقات بين البلدين، يرجعها جلال إلى عوامل من بينها: قيام الثورة العراقية العام 1958، والتي برز من خلالها المد الثوري القومي العربي، والعداء الذي أبدته القيادة العراقية للحزب الشيوعي العراقي، وامتداده إلى الحزب الشيوعي المصري، وكذلك القيادات الشيوعية في المنطقة «لعدم إيمانهم بالفكر القومي، وتركيزهم على الدعوة الأممية»، ما أثار حفيظة الصين وحفيظة الاتحاد السوفياتي.
هنالك أيضاً ثورة اليمن التي قامت في العام 1962، بزعامة عبدالله السلال، ومساندة عبدالناصر لها، والتدخل العسكري المصري الذي استنزف الموازنة المصرية من جهة، وزيادة معاناة الشعب اقتصادياً من جهة أخرى، كما يشير السفير جلال؛ إذ تخلَّل التدخل المصري في اليمن، «تدخل السعودية في اليمن لمواجهة المد الثوري القومي الناصري، ولم تأت حرب العام 1967 إلا ومصر مستنزفة في مواردها، لتنكشف الأمور بالهزيمة، التي أسهمت في توجيه ضربة قاسية لزعامة عبدالناصر». ويُجمل السفير جلال نتائج ما حدث بقوله: «حققت الهزيمة للفكر القومي والنصر لإسرائيل عودة الروح للعروبة ولو بدرجة معقولة فانسحب عبدالناصر من اليمن باتفاق مصري سعودي حتى يتفرغ لمواجهة احتلال أراضيه والأراضي العربية الأخرى».
أما المرحلة الثالثة، فيجملها جلال في سعي عبدالناصر للخروج من المأزق الداخلي بالتنحي الذي رفضه الشعب المصري تماماً وأصر على التمسك بزعامته. يوجز هذه المرحلة بالإشارة إلى أنها شهدت انهماك مصر وعبدالناصر في أزمات داخلية متتالية، ومن ثم تراجع المد القومي العربي، وانهماك الصين في ثورتها الثقافية، ومن هنا تجمَّدت العلاقات بين البلدين وأصبحت شكلية؛ وخصوصاً «أمام الشقاق الصيني السوفياتي».
وبالنسبة إلى المرحلة الثالثة فيقف عندها مستعرضاً أحداثاً أربعة في تاريخ الدولتين، بسبب تراجع علاقاتهما بدرجة كبيرة، ويبرز الحدث الأول في هزيمة العام 1967 أمام «إسرائيل»، وما تمخَّض عنها بفقدان الدولة المصرية والعربية مساحات من أراضيها.
أما الحدث الثاني، فيتمثَّل في قيام الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى في الصين في الفترة ما بين أغسطس/آب 1966 حتى 1976، ويذكِّرنا جلال بأن تلك الفترة كانت من أخطر الأحداث التي مرَّت بها الصين في تاريخها.
ليأتي الحدث الثالث بقيام حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بعد حرب الاستنزاف. أما الحدث الرابع فيبرز بموت ماوتسي تونغ وشوان لاي، وإنهاء الثورة الثقافية «وبدء الانتقال من الثورة التي طحنت الصين وشعبها سياسياً واقتصادياً ونفسياً لمدة عشر سنوات».
نتائج الأحداث الأربعة
تلك الأحداث كانت لها انعكاساتها ونتائجها الخطيرة في تاريخ الدولتين وعلاقاتهما، من بينها، كما يوضح السفير محمد نعمان جلال: تراجع مكانة مصر باحتلال كامل سيناء، وانكفائها على الذات لانشغالها بالعمل لتحرير أراضيها «وهو ما تحقق في حرب أكتوبر، ومبادرة السادات للسلام».
تراجع مكانة الصين اقتصادياً وسياسياً ودولياً؛ بسبب الثورة الثقافية. إلى جانب تراجع العلاقات المصرية الصينية لانشغال البلدين بأمورهما الداخلية. ورابع تلك النتائج، استعادة الصين مقعدها في الأمم المتحدة «إثر المبادرة الأميركية التي قادها وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر، وقيام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة الصين العام 1972، واستعادة العلاقات الدبلوماسية بصورة كاملة في العام 1978».
وبالعودة إلى تبيان المراحل الست، يضعنا السفير جلال أمام المرحلة الرابعة، التي شهدت تحسُّناً في العلاقات بين البلدين، في الفترة ما بين 1978 و 2010، في مرحلة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، واتسمت بخمس سمات بحسب ما يوضحها السفير جلال، الأولى تبدَّت من خلال كثرة وتنوع الزيارات المتبادلة بين البلدين. الثانية في استقرار نوع من التقليد الصيني في أن يقوم أي مسئول صيني بزيارة مصر في بداية كل عام. الثالثة زيارة رئيس وزراء مصر الأسبق كمال الجنزوري للصين في أواخر العام 1998. وفي السمة الخامسة لا يتغافل السفير جلال عن أنه على رغم كثرة الزيارات الرئاسية، وتوقيع عديد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، إلا «أن العلاقات الفعلية ظلت محدودة في مجالات الاستثمار، وفي التبادل التجاري، وخصوصاً الصادرات المصرية للصين، بخلاف الصادرات الصينية لمصر التي زادت متوالية هندسية». أما السمة الخامسة فاتضحت بقيام الرئيس الصيني جيانج تزمين بزيارتين لمصر في العام 1998 والعام 2000.
ثورة 25 يناير
بعد ثورة 25 يناير المصرية ومجيء الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي إلى الحكم، شهدت العلاقات بين البلدين حالة جمود «أو التهدئة» كما يقول السفير جلال؛ نتيجة ما آلت إلية ثورة يناير من الإطاحة بالرئيس الأسبق مبارك «والذي كان صديقاً للصين، على رغم أن تلك الصداقة لم تحقق مكاسب كبيرة للصين».
من ملامح الجمود والترقب، عدم تحمس الصين لما يسمى «ثورة، وهو ما يترتب عليه حدوث حالة من عدم الاستقرار ورفض الصين لأي تغيير بغير الطرق الدستورية». لتأخذ حالة الترقب منحى آخر نحو الصعود بوصول الإخوان المسلمين للسلْطة في مصر.
يسرد جلال جانباً من الأحداث في مصر، وما آلت إليه الأمور بإقالة مرسي، وتولي رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور الرئاسة المؤقتة، وما أعقب تلك المرحلة من إجراء انتخابات رئاسية جاءت بالمشير عبدالفتاح السيسي رئيساً لمصر.
يقدِّم السفير جلال تقييماً للعلاقات بين البلدين عبر المراحل الست المختلفة التي أشرنا إليها في سياق استعراض الكتاب، وسمات كل مرحلة من تلك المراحل، ابتداء بصعودها وبرودها، والتغير الجوهري في السياسة الصينية ببروز دنج سياوبنج، وانتهاج سياسة الانفتاح، وصولاً إلى المرحلتين الخامسة والسادسة التي وسمتْها بالبرود الاقتصادي والسياسي في العلاقات، وتجاهل القيادات الصينية الزيارات لمصر.
18 عاملاً تحقق تفعيل التعاون
كما أشرنا في بداية هذا الاستعراض إلى أن الكتاب يقدم رؤية من واقع خبرات المؤلف المتراكمة، وتجربته ومعرفته بالخريطة السياسية والتركيبة المعقدة للصين، وبالدرجة الأولى معرفته العميقة وخبراته التي راكمها منذ التحاقه المبكر بوزارة الخارجية في بلاده.
ومن أجل توفير المناخات الضرورية كي تأخذ العلاقات بين البلدين مكانتها اللائقة والعميقة، ضمن آفاق واعدة تتطلب تحقق مجموعة من العوامل يحدِّدها السفير جلال في 18 عاملاً أو عنصراً:
1 - إعادة التوازن في المجتمع المصري عن طريق جدية العمل والإنتاج - جدية احترام القانون وتطوير الاقتصاد.
2 - إعادة الدور المصري العربي الإفريقي لتأكيد مصادر قوة مصر الناعمة.
3 - التعامل مع الاتفاقيات التي وقعت في زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي للصين بطريقة جادة.
4 - عدم التركيز غير المبرر على الممارسات الخاصة بمذكرات التفاهم، فهي ليست اتفاقيات محددة أو ملزمة، إنما هي أشبه بإعلان النوايا والتفاهمات بين أصحاب الأعمال.
5 - كثرة الزيارات الجادة للمسئولين المصريين للصين.
6 - محاربة الفساد أسوة بما تقوم به الصين.
7 - البحث عن القواسم المشتركة مثل: منتدى التعاون الصيني الإفريقي، منتدى التعاون الصيني العربي.
8 - تفعيل عناصر القوة الناعمة المصرية: الثقافة والفن - الاقتصاد والتجارة.
9 - تفعيل المسار الثاني للعلاقات - المجلس المصري للشئون الخارجية - جمعية الصداقة المصرية الصينية.
10 - تفعيل الأدوار المصرية في العلاقات مع الصين مثل: الحوار الثقافي العربي الصيني، والحوار الثقافي والحضاري الإسلامي الصيني.
11- تفعيل الحوار الصيني الإفريقي على المستوى الشعبي، والاتحاد الاقتصادي الإفريقي.
12 - مزيد من التنسيق بين مصر والصين في المحافل الدولية.
13 - المشاركة الإيجابية في مبادرات الرئيس الصيني حول طريق الحرير البحري وبنك الاستثمار الآسيوي.
14 - المشاركة الإيجابية والفاعلة من جانب الصين في مبادرات الرئيس السيسي حول قناة السويس الجديدة، والتنمية في السويس، والتنمية في بقية المحافظات، وخصوصاً محافظات الصعيد.
15 - تفعيل العلاقات السياحية.
16 - تفعيل خطوط الطيران.
17 - تطوير التعامل مع الاتحادات غير الحكومية وشبه الحكومية.
18 - تكوين نخبة استراتيجية تفهم حضارة الصين: عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً وفكرياً.
ضوء
يُذكر أن السفير محمد نعمان جلال، حاصل على دكتوراه في فلسفة العلوم السياسية - جامعة القاهرة العام 1980، مع مرتبة الشرف الأولى، وعضو المجلس المصري للشئون الخارجية (1999).
صدر للمؤلف 45 كتاباً، منفرداً أو مُشاركاً، من أحدثها: «ثورة 25 يناير... إطلالة استراتيجية على الأبعاد الداخلية والخارجية»، البنوك الإسلامية: النظرية والتطبيق... (مُحرر) الاستراتيجية والدبلوماسية»، «الدبلوماسية والبروتوكول بين التقاليد الإسلامية والمجتمع الحديث»، الاستراتيجية والدبلوماسية والبروتوكول»، «حقوق الإنسان» (3 كتب)، وغيرها من الكتب.