أزاح الكاتب والأكاديمي البحريني نادر كاظم ستاراً عن جانب مهم في مسيرته بالكتابة والتأليف منذ انطلاقتها الأولى في العام 2007، إلا أنها كانت «مثيرة للجدل وواسعة الانتشار ومحط نقاش متعدد الأطراف»، ليعترف في حلقة حوارية نظمها نادي «اقرأ» مساء يوم الثلثاء (13 ديسمبر/ كانون الأول 2016) بمقهى بستاتشيو بأن المؤرخ البحريني ناصر جوهر الخيري صاحب كتاب «قلائد النحرين في تاريخ البحرين» نقله للشأن البحريني... ولكن، كيف ذلك؟
مؤرخ في «المعمعة»
من علم التأويل (هرمنيوطيقا)، وهي المدرسة الفلسفية التي تدرس نظريات وفن دراسة وفهم النصوص، وجد كاظم في ناصر الخيري رجلاً طرح قضايا مهمة في العام 1923، ففي تلك الفترة، التي لن يكون من السهل الحصول على وثيقة أو وثيقتين لدى الإنجليز، كتب الخيري من واقع هو أساساً مشارك فيه، فقد كان قريباً من الميجور ديلي وعمل في دار الاعتماد البريطاني، وهو الذي ترجم خطاب عزل الشيخ عيسى بن علي من الإنجليزية إلى العربية أثناء إلقاء خطاب العزل، فقد كان في «المعمعة»، وكانت قراءته مهمة لذلك نقلني للشأن البحريني وبدا ذلك في الكتابين: «طبائع الاستملاك» و«استعمالات الذاكرة».
ووقوفاً عند هذا المحور تحديداً على رغم تنوع محاور التساؤلات والمداخلات في الحوار، يصف كاظم المؤرخ ناصر الخيري بأنه سابق لزمنه بكل المقاييس، وكان فوق التعصب الطائفي، أما كونه قد تأثر أو لم يتأثر بمدارس التبشير من تعلم اللغة الإنجليزية، فذلك دليل على أنه كان يمتلك روح الاستقلالية من بين كل المثقفين البحرينيين في مطلع القرن العشرين، فقد كان قريباً من مجموعة النادي الأدبي بالمحرق كالشيخ محمد بن عيسى، والشيخ إبراهيم بن محمد وعبدلله الزايد وغيرهم، وقد لحقته بعض الأوصاف من قبيل «خائن» أو «عميل الإنجليز» إبان فترة الجدل التي شهدتها فترة عزل الشيخ عيسى بن علي حيث ظهر فريق مؤيد للعزل وفريق معارض، فيما كانت روح الاستقلالية - كما يرى كاظم وفق قراءته له - جعلته يرى الخيار الذي يرى نفسه فيه ويأخذ قراره.
كتاب ومشروع الكاتب
وعوداً إلى الحلقة الحوارية، فقد استهلها رئيس نادي «اقرأ» عمار جعفر بالترحيب بالحضور والتنويه إلى أن ذلك اللقاء هو ختام موسم العام 2016 للنادي، وتم تخصيص تحت عنوان «كتاب ومشروع الكاتب» للتعرف على مشروع الكاتب والأكاديمي البحريني نادر كاظم، ومع فتح باب المداخلات لتقديم آراء لمن قرأ كتب كاظم، تحدث المشارك محمد خليل، مشيراً إلى أنه قرأ ثلاثة كتب هي: «إنقاذ الأمل» و«استعمالات الذاكرة» و«طبائع الاستملاك»، لكن ما شده في كتاب «استعمالات الذاكرة» هو سيرة الشتات العظيم الذي يتعرض له المجتمع البحريني، وآثار الهواجس والبقاء والفناء، لهذا طرح تساؤلاً مفاده أنه من حقب وفترات كثيرة مرت على البحرين ماذا كان دور المجتمع؟ وهل كانت له فاعلية في تغيير الأحداث من حوله من العصر الإسلامي وصولاً إلى فترة القرامطة وفترات كثيرة منسية... أم أنه كان مجتمعاً سلبياً؟ ثم، نقطة أخرى ومن وحي كتاب «إنقاذ الأمل»، مع موجة الأمل والتمدن والموجة الإسلامية ما هو الطابع الفكري الذي سيميز الموجة القادمة؟
خيار الفرد في تحديد هويته
وانتقل عضو مبادرة «قراء بحرينيون» الطبيب محمد الجمري إلى كتاب «خارج الجماعة»، والذي أعجبه فيه هو أن الكاتب يؤكد أن يكون الفرد مستقلاً بشخصيته ولا يختزل كل وجوده وحياته في شخصية واحدة، وفي الوقت ذاته يعطيه خياراً ضمن الجماعة أو خارج الجماعة، أي أن للفرد الخيار في تحديد هويته الأصلية أو الحقيقية، ولأنه قرأ «خارج الجماعة»، «استعمالات الذاكرة»، و«طبائع الاستملاك»، فإن رجل الأعمال يوسف المؤيد يرى أن كاظم يثري تاريخ البحرين الذي لم أكن أعرف عنه الكثير، وعرفت كيف كان المجتمع سابقاً وكيف تكونت الدولة، وشعرت من خلال الكتاب أن الكاتب درس طبع المجتمع فالكثير من الناس لديهم فكر جماعي يجعلهم يشعرون بانتمائهم لمجموعة ويُصنفون بحسب هذا الانتماء.
لم نشعر بـ «المأزق»!
وربما كانت التجربة الأولى مع مؤلفات الكاتب مع الطبيب عقيل الموسوي الذي قال: «قرأت كتبه في العام 2007 وانبهرت ورفعت الهاتف متصلاً لأتعرف عليه لانبهاري بمشهد ثقافي أمامي حتى فرضت عليه صداقتي! وبشيء من الفكاهة يضيف... منذ ذلك الحين، وأنا أعلمه الرياضة وهو يعلمني الكتابة، فحين انبهرت بكتابه «كراهيات منفلتة»، وجدت التوقيت الممتاز لطرح الكتاب في الوقت الذي كنا فيه «غفلانين» ولم نكن نشعر بالمأزق الذي نحن فيه، فكان له التوصيف والتشخيص ودق ناقوس الخطر ولم نستدرك ما قال في كتابه وإذا الربيع العربي ينفجر والكراهيات تنفلت وشاهدنا كل ذلك: ضرب وقتل ودم وتقاتل طائفي وهذا أكثر ما يشد أي قارئ لكتب نادر فـ «كراهيات منفلتة»، توصيف للحالة العربية وليس البحرينية فقط، وتعقب المشاركة جليلة الموسوي بالقول: «انبهرنا بالكتب، وقد قرأت «استعمالات الذاكرة» وبعدها تساءلت: «هل هذا بحريني يكتب بهذا المستوى؟»، فطلبت من أخي عقيل يعرفني عليه.
ولعل الباحث والمهتم بالتاريخ المشارك توفيق الرياش يلفت إلى أنه قرأ الكاتب قبل أن يقرأ كتبه باعتباره صديقاً له، ولأنني مهتم كثيراً بتاريخ البحرين، فكاظم من القلة القليلة من الكتاب الذين يربطون الماضي بالحاضر بالمستقبل، وأتمنى أن يغوص في ماضي البحرين لكونه غير موثق بالشكل المطلوب.
كتاب كأنه «مسند»!
ويشير المشارك كامل الموسوي إلى أنه كان مهتماً بقراءة ما يصدر في موضوع «العقل العربي» وكثيراً في كتابات محمد عابد الجابري وغيره من الكتاب والمفكرين الذي يتساءلون حول سر تطور العالم والغرب إلا العرب والمسلمين، وأين تكمن المشكلة؟ وحين تعرفت على الكاتب كاظم في أحد معارض الكتاب طلبت منه أن يسهل لي طريقة لفهم ما يرمي إليه الجابري فقال اقرأ «نقد العقل العربي» لجورج طرابيشي حتى تفهم الجابري فوجدت له كتاباً كبيراً «كأنه مسند»! لكنني وجدت النهج نفسه ولكل كاتب طريقته، حينها قرأت لناصحي وهو نادر كاظم، فوجدت الخلاصة لديه في كتاب «خارج الجماعة».
يغيظك... بأكاديميته
ولأن الأستاذ المساعد بجامعة البحرين علي إسماعيل تربطه علاقة صداقة قديمة بالكاتب كاظم، ولكونه من مريديه فإنه يصف مسبقاً ما يطرحه بأنه لن يكون نقداً موضوعياً، ليضيف «لأنا قريبون منه، منه فأية مشكلة أو ضجة فيها نادر يتصلون بي، على أساس أنني معجب بفكره، ومن الصفات الأساسية لديه أنه يغيظك بأكاديميته! فهو ليس داعية ولا يتبني أفكار التبشير بها بل يلتزم بالأكاديمية العلمية حين يكتب لدرجة أنه يطرح الفكرة وليس فيها شحنة الدفاع والعاطفية التي يريدها الآخرون، حتى يتساءل البعض أين مشاعره عند تلك النقطة أو تلك؟ ثم إن لديه التنوع ويأخذك من ساحة إلى أخرى، ولهذا، فإن كتابه الأول «صورة الأسود في المتخيل العربي الوسيط» يعالج موضوعاً جديداً وهو كيف تنظر إلى الأسود بمنظور ثقافي معين، بالإضافة إلى تركيزه في الآونة الأخيرة على الهوية والهويات وهو موضوع شائك وله رأي فيه، ومنذ العام 2013 توقف عن الكتابة، وأعرف السر في ذلك، حيث أصبح يعمل على أبحاث الجامعة، ولهذا لم يصدر أي كتاب منذ ذلك العام».
وتعرف المشارك محمود حيدر في إحدى الندوات على الضيف وكانت ندوة بعنوان «أدلجة الدين وأدلجة الحداثة»، وكان ذلك في العام 2007 حيث كان لدي مجلس ثقافي ودعوته لمجلسي مع أنني كنت متخوفاً من عدم موافقته، لكنه تجاوب معي مباشرة وحضر واكتشفت فيه الإنسان المتواضع مع سعة الاطلاع والعمق والنقلة التي ينقلها للقارئ مع كل كتاب يقرأه، وفي كتاب «طبائع الاستملاك» تحدث عن الحداثة لينقلك في عمق كل فكرة ويفهمك أشياء أنت لست تفهمها، ويختتم المشارك محمد خليل بالإشارة إلى أنه قرأ كتاب «طبائع الاستملاك» وحينها لم يكن يعرف المؤلف لكنه استفاد من الكتاب، إلا أنه كان يتمنى أن يتعمق في رأي الكاتب أكثر من آراء غيره.
ألف ليلة وليلة
ولربما طال المقام بالمداخلات والتساؤلات من الحضور الكبير في الحلقة، إلا أن الضيف نادر كاظم، تحدث منوهاً إلى أن اهتمامه بالأساس كان منصباً على علم التأويل (هرمنيوطيقا)، وهم علم كيفية فهم نص كتب في زمن معين من القرون الماضية، والفكرة موجودة في المدرسة الألمانية تحديداً وهي تلك المعنية في التأويل ومن مفكريها: غيلفي، ميرتن هايدغار، غادامير، وأسماء كبرى في الفلسفة، فهي مدرسة مهتمة بإشكالية الفهم لأناس ليسوا في زمنك والسياق غير موجود، ذلك أنه في قراءة النص القديم، تبدو المسألة معقدة وقد تحول السياق إلى مجموعة نصوص وليس أمامك سياق ملموس، وقدمت رسالة الماجستير في: «المقامات والتلقي»، وشعرت بعد ذلك أنه ليس المهم فقط فهم النصوص، فهناك شيء أكبر وهي علاقاتنا البشرية، فالنصوص تكتسب أهميتها من علاقتنا كبشر بتسهيل أو إعاقة تواصلنا.
ويواصل حديثه بالقول: «نظرت إلى النصوص كعلاقة للتواصل بين البشر، إما تعوق التواصل أو تسهله، ونقلني ذلك إلى أن العرب في العصور الوسطي، من الإسلام إلى القرن التاسع عشر»، وتساءلت: «كيف كان العرب ينظرون للآخر، وتحديداً للآخر الأسود، وبدأت الفكرة بسيطة من خلال قراءة روايات «ألف ليلة وليلة» كنصوص من التراث العربي السردي، فكان الأسود حاضراً كمكون أساسي في الحكايات... فالحكاية الإطارية ليس بالإمكان فهمها إلا من خلال العبيد، فاهتممت بالأسود في المتخيل العربي، ومن «ألف ليلة وليلة» توسعت لأن هناك تراثاً ضخماً في العصور الوسطي كله يدور حول الأسود، فقد تقوم علاقة بين العربي والفارسي والرومي والهندي والصيني، لكن بين العربي وبين الزنجي الأسود لا توجد علاقة، لهذا شغلني الموضوع وصار كل ما يقع في يدي من نصوص عربية قديمة وأي كتاب صدر من القرن الثاني الهجري إلى التاسع عشر موضع اهتمام بالنسبة لي، وبدت كمدونة ضخمة مترامية الأطراف على مدى عشرة قرون بما فيها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وأشعار العرب وحكاياتهم، حتى كتب الطب واللغة وعلم البحار وكيف هي النظرة إلى السواد أو للبشر السود وجاء ذلك في اهتمام سياق آخر لي مع التأويل».
هذه الطريقة... لا تستهويني!
ومع اهتمامي بقضايا ما بعد الاستعمار والاستشراق والثقافة والإمبريالية، فقد فتح لي المفكر إدوارد سعيد أبواباً جديدة وكرست الموضوع في كتاب «تمثيلات الآخر»، وأتذكر أنني عندما عرضته على الشاعر علي الشرقاوي، وكان لديه مكتبة «نور» وكنا نزوره باستمرار وكان محباً للشباب والقراءة، فقال لي وقعت على موضوع يمكنك من إصدار عشرة كتب تتحدث عن: الأسود، الفارسي، الرومي، الهندي، الصيني، وفي الحقيقة، لم يكن اهتمامي بالموضوع من هذا الجانب، بل الموضوع الذي يشدني وأتعلق به عاطفياً هو يقيمني ويقعدني بناءً على اهتمامي، وأراه يستحق، أما أنك كتبت عن الأسود... فاكتب الآن عن الفارسي أو الهندي، فهذه الطريقة لا تستهويني بل تستهويني قضية الكتاب.
ثم عن التحول، يقول كاظم: «التحول كم تمثيلات الآخر أو السود في الثقافة العربية والإسلامية في القرون الوسطى إلى، «طبائع الاستملاك»، و«استعمالات الذاكرة»، فقد كانت حلقة الوصل هي شخص أسود في ثقافتنا وتاريخنا البحريني، وكتابه المخطوط بطباعة رديئة وسيئة يتمزق حال فتحه وهو «قلائد النحرين في تاريخ البحرين» من تأليف ناصر بن جوهر الخيري المتوفى سنة 1925... قرأت الكتاب، وكما انبهرتم حين قرأتم كتابي انبهرت أنا بكتاب ناصر... كان مألوفاً نقرأ كتاباً في الفقه حتى القرن السابع عشر: الصيام، الصلاة، التقليد، قضايا لها صلة بالفقه، لكن أن تقع على كتاب ككتاب ناصر له طموح لتأريخ البحرين من حقبة دلمون، فهذا أمر مهم، وفي الكتاب جهد وفيه رؤية فرد متحرر ومثقف وكان ناشطاً في الحياة الثقافية ومن المؤسسين لنادي إقبال أوال والنادي الأدبي في المحرق، ومن المهمين في تاريخ الجيل الأول من النهضويين والتنويريين.
العدد 5216 - السبت 17 ديسمبر 2016م الموافق 17 ربيع الاول 1438هـ