تتناول المستشرقة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو، في مقالها الشهري بمجلة «الدوحة القطرية»، في عددها الثامن بعد المئة لشهر أكتوبر/تشرين الأول 2016، واحدة من علامات أهل نابولي في إيطاليا. علامات قد نكون بمنأى عنها، نحن في الشرق، الذي يريد أن تبدأ المثالية به ولا تنتهي، على رغم أن المثالية لم يعد لها مكان في هذا الشرق الذي طحنته الحروب والشقاء والوهم.
تذكِّرنا دافليتو بما يروج بين الإيطاليين وشعوب أوروبا، بأن أهل نابولي هم الأكثر سخاء بين الإيطاليين، مع تذكيرنا بأنهم عانوا في الماضي من الفقر والبؤس، لكنهم لم يتخلوا عن شيمتهم تلك، وظلوا إلى اليوم في طليعة الذين لا يترددون في تقديم العون للمحتاجين، على الأقل لأهلهم في المكان الواحد.
من بين أجمل ما ذكرته دافليتو في مقالها ما يُطلق عليه في نابولي بـ «القهوة المدفوعة». ما حكاية «القهوة المدفوعة»؟ حكايتها أن هذه العادة باتت رمزاً للشيمة والشعور بإحساس الآخرين، وافتراض حاجتهم، لأن المجتمعات لا تخلو من المعوزين والمحتاجين، فكل من يدخل إلى مقهى طالباً فنجاناً من القهوة عليه أن يدفع ثمن فنجانين، بحيث تذهب قيمة الفنجان الثاني إلى مجهول يرتاد المقهى، «ولا يجد معه نقوداً».
ما لم تذكره دافليتو هو أن أصحاب المقاهي في نابولي لا يتحسَّسون بدورهم من المجهولين، وهم ليسوا كذلك بالنسبة إلى أهل المنطقة. أطلق عليه «المجهول» لأن لا أحد سيعرف بذلك الدور، كي لا يكون تفضُّلاً أو جميلاً بمفهومنا الشرقي. إنه حق للذين لا يملكون البسيط من مُتع الحياة: القهوة، وحقهم في أن يكونوا في حفظ من كرامتهم والا تكون الحاجة مبرراً للتطاول عليهم وتعييرهم، والحط من كرامتهم. يضع أهل نابولي العالم أمام ما لم يعرفونه من شيمة التعفف عندنا. في ذلك حفظ لقيمة الإنسان، وحفظ لكرامته، والنأي به عن إراقة ماء الوجه، في موقف تكافلي يبدأ بالقهوة، تلك البسيطة ولكنها قادرة على ترتيب نهارات الناس وأوقاتهم، وصولاً إلى ممارسات نبيلة أخرى ربما لم يتطرق لها مقال دافليتو.
ولسبب بسيط نفهم أن أي مجموعة أو شعب تبدر منه قيمة نبيلة مهما كانت بسيطة وصغيرة، يكون مؤهلاً لأن يتبنَّى ويتمسك بالقيم الكبيرة، في بعد إنساني جميل ورائع.
من بين ما تتطرق إليه دافليتو في مقالها المشار إليه أنها تتذكر عندما كانت تعمل في نابولي، وكانت تذهب مع زملائها لتناول القهوة في مقهى في منطقة الجامعة «كنا غالباً ما نعيش مشاهد مثل هذه: شخص عادي يدخل ويسأل: هل دفع أحد فنجاناً من القهوة لي؟ يقدِّم النادل القهوة له، فيشرب ويدعو لمن دفعها له، ويمضي بين عيون الزبائن الآخرين المملوءة بالدهشة». وتضيف بأن الأمر نفسه يتكرر أيضاً مع البيتزا، وإن كان بدرجة أقل.
أكثر ما يدهش من تلك الحالات الإنسانية في مقال دافليتو، ما بات موجوداً عندنا في محلات قليلة في البحرين، وهو ترك مجموعة من العصائر والمياه، وحتى الدجاج أحياناً في ثلاجة لمن لا يملكون ثمنها، وتكثر تلك الثلاجات في المواقع التي يكثر فيها تواجد العمال من ذوي الأجور المنخفضة للغاية، ممن لا يعرفون اللحوم أو العصائر، وعلى رغم قلتها عندنا إلا أنها تكشف عن الأصل في الروح الإنسانية لدينا، ولكنها مؤجلة. نعم مؤجلة في كثير من الأحيان.
تشهد دافليتو على قصة صاحب بقالة في نابولي نفسها يضع كل صباح خارج محله كرتونة كبيرة تحتوي أكياساً مليئة بالخبز الطازج، كتب عليها «إذا كنت بحاجة إليه خذه»، وإضافة إلى الخبز يترك من الفوائض الغذائية التي لم يقم ببيعها نهاية يومه، وبحسب تعبيرها «لتصبح منتجات مخصصة لأولئك الذين لا يستطيعون حتى الدخول إلى متجر»، مؤكدة أنها ليست منتجات منتهية الصلاحية، بل ذات جودة عالية «بما في ذلك المنتجات البيولوجية غالية الثمن، ومعها المعكرونة والرز وأكثر من ذلك».
ملاحظة دافليتو، أو ما أدهشها هو أن الذين يقتربون من تلك «الوليمة» ليسوا من الفقراء فقط، بل من بينهم عدد من كبار السن من أصحاب المعاشات، ممن لا تكفيهم لنهاية الشهر «وهؤلاء كانوا يقتربون بحياء شديد من المتجر ويأخذون شيئاً واحداً ثم ينصرفون، بعد أن يشكروا صاحب المتجر. لم يستغل أحد، حتى الآن، الموقف وينهب هذا الكنز الصغير»، وترى دافليتو بأن ذلك السلوك يبرز «المعجزة الأعظم التي تمخضت عن مبادرة نابولي هذه».
قيمة الإنسان الحقيقية في استشعاره لحاجة من لا يملكون شيئاً. في متابعته وحرصه أيضاً على ألا تكون في المبادرات تلك ما يهين تلك الفئات أو الشرائح. ذلك ما يحفظ المجتمعات من السقوط في وهدة الأنانية والشره واللامبالاة. مثل تلك القيم بدأت تتمدد في أوروبا، فيما تكاد لا تُرى إلا قليلاً في مجتمعاتنا التي من المفترض أنها تملك كنوزاً من الإرث والثقافة والقيم التي تحض على مثل تلك المبادرات، وتشجّع عليها، ضمن مشروع التكافل الاجتماعي.