ذكرنا في الحلقة السابقة، أنه تم الكشف عن ثلاثة قبور متجاورة تقع في موقع سار الأثري، ولكل قبر ساجة، وهذه الساجة مزيّنة بالنقوش والكتابات الكوفية المورقة، وقد تم ترجيح أن هذه القبور تعود إلى القرنين الحادي عشر/الثاني عشر الميلاديين. كما عُثر حول قبرين، من تلك القبور الثلاثة، على أساسات وبقايا جدران تدل على أنه كانت هناك غرف أو جدران تحيط بكل قبر، وتتميّز إحدى تلك الغرف بأن لها محراباً، وربما يشير هذا إلى أنه تم بناء مسجد فوق إحدى تلك القبور (Kalus 1990, pp. 75-76).
يُذكر، أن ساجات تلك القبور تُعطي دلالات تاريخية جديرة بأن يتم مناقشتها بصورة موسّعة، وتستلزم تلك المناقشة دراسة ومقارنة عدد كبير من الساجات في البحرين، ولكن، للأسف لم ينشر إلا القليل من الساجات وذلك في دراسات البعثة الفرنسية (Kalus 1990, 1995)؛ ما يجعلنا نقصر عملية دراسة الساجات على مُعطيات أولية بسيطة، ولكنها تعتبر بادرة لدراسات مستقبلية مفصلة. يذكر، أنه من خلال دراسة ساجات قبور سار يمكننا تحديد بداية دخول فن صناعة الساجات للبحرين وكيف بدأت، وكيف تطوّر هذا الفن. كذلك، فإن دراسة الساجات بصورة عامة في البحرين يسلّط الضوء على عمليات النقل الثقافي الذي أدّى إلى نقل هذا الفن إلى البحرين.
تاريخ صناعة الساجات في البحرين
الساجة هو مصطلح يُطلق على شاهد قبري، لكنه على شكل غطاء صخري يتم وضعه بطول القبر، وبحسب المراجع المتوافرة لديّ حول الساجات، فإنه من المرجّح أن بداية ظهور فن صناعة الساجات كان في منطقة سيراف في إيران وذلك في نهاية القرن العاشر الميلادي؛ حيث عُثر على ساجة، وبحسب التاريخ المنقوش عليها، فإنها تعود إلى العام 975م. يذكر أنه عُثر في سيراف على قرابة 60 ساجة، بينها ما هو متكسّر أو أجزاء من ساجة، وهي تعود إلى الفترة ما بين 975 - 1334م (Blair 1998, p. 196).
هذا ولم يتم العثور على ساجات مُشابهة لما عثر عليها في سيراف إلا في البحرين. وتعود أقدم ساجة عُثر عليها في البحرين إلى القرن الحادي عشر الميلادي. يذكر أن الساجات المبكّرة التي عُثر عليها في البحرين نُقش عليها كتابة بالخط الكوفي المُورق، وكذلك في سيراف تم استخدام هذا الخط على بعض الساجات المبكّرة والتي تتزامن مع الساجات المبكّرة في البحرين.
هذا وقد بنينا ترجيحنا حول بداية ظهور فن صناعة الساجات في البحرين على عدّة قرائن منها، أنه لم يتم العثور على ساجة تعود إلى ما قبل القرن الحادي عشر، وكذلك، فإن الطريقة التي صُنعت بها الساجات المبكّرة في البحرين، كما هو الحال مع ساجات قبور سار، بدائية، والمرجّح أن القائمين عليها تنقصهم الخبرة العملية.
صناعة الساجات في سار
تُعرف ساجات القبور في سار بطريقة صنعها المميّزة والتي تختلف عن الطرق التقليدية التي استخدمت في صناعة الساجات الأكثر حداثة؛ حيث إن كل ساجة من هذه الساجات تم تحضيرها بقطع صخرة بطول القبر، هذه الصخرة تمثل الهيكل الأساسي الذي ستشكّل عليه الساجة. بعد ذلك، يتم طلاء قطعة الصخرة بطبقة سميكة من الجبس. أما النقوش فيتم إعدادها على قالب خاص، ويستخدم هذا القالب كالختم الذي تختم به النقوش على الجبس الذي تم طلاؤه على الساجة (Kalus 1990, pp. 75-76). يذكر أنه عند استخدام القالب يجب أن تعد النقوش في القالب بصورة معكوسة (mirror image)، وذلك حتى تظهر تلك النقوش بصورة طبيعية عندما يتم دمغها على الجبس.
أما ما تم ملاحظته أن النقوش على ساجات مقبرة سار ظهرت بصورة معكوسة على الساجة (Kalus 1990, pp. 75-76)، أي أن القالب لم يعد إعداداً صحيحاً أو ربما هناك أسباب أخرى. أياً كانت الأسباب، فإن وجود هذه النقوش المعكوسة تدل على قلة خبرة في فن صناعة الساجات؛ ما يدل، ربما، على أن هذه الفترة شهدت بداية ظهور فن صناعة الساجات في البحرين.
العلاقات التجارية بين البحرين وسيراف
نشطت سيراف كميناء تجاري في الخليج العربي قرابة القرن التاسع الميلادي، وقد تعاظم شأنها في حقبة الدولة البويهية (945 – 1055م)، وقد نشطت تجارتها مع المناطق البعيدة كالصين وشرق إفريقيا. إلا أن دورها التجاري بدأ يتناقص منذ القرن الحادي عشر الميلادي؛ وخصوصاً بعد أفول الدولة البويهية (Whitehouse 1970). كما كانت هناك علاقة قوية بين سيراف وسامراء، حيث عثر على فخّار سامراء في سيراف، وكذلك، فإن المساجد الأثرية في سيراف تتميّز بأنها بُنيَت بطراز شبيه بطراز المساجد التي عثر على آثارها في قصور سامراء (Whitehouse 1984).
وبلا شك، فإن البحرين قد كانت ضمن الشبكة التجارية لسيراف في تلك الحقبة؛ فقد عُثر في عددٍ من المواقع الأثرية في البحرين (في عالي على سبيل المثال، كما سبق وذكرنا) والتي تعود إلى الحقبة ما بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر الميلادي على فخّار سامراء وفخار صيني، وهي أنواع غالية من الفخار (Sasaki 2011). وكذلك، فإن نمط المساجد القديمة الأثرية في البحرين يتشابه مع النمط السامرائي (Whitehouse 2003).
الخلاصة: إن ساجات قبور سار توفر العديد من المعلومات التي يجب أن تُدرَس بصورة أكثر تعمقاً؛ وخصوصاً أنها تكشف عن طريقة صناعة الساجات، وربما تحدّد تاريخ بداية فن صناعة الساجات في البحرين، كذلك، فإن العلاقة التجارية بين البحرين وسيراف في الحقبة الإسلامية المبكّرة تحتاج إلى مزيد من التجارة، لتحديد مدى قوّة تلك العلاقة وهل أدّت إلى عملية نقل ثقافي بين المنطقتين. ربما دراسة نموذج التوسّع الاستيطاني في البحرين في الفترة الإسلامية المبكّرة يسلّط الضوء أكثر على تلك العلاقة، وهو ما سنتناوله في الحلقات المقبلة.
تشكر بارك الله فيكم استاذنا العزيز على هذا الموضوع الممتاز التي يعرف القارئ والباحث مدى عمق تاريخ هذه الجزيرة الصغيرة الحجم والكبيرة المكانة والعمق التاريخي الحضاري الغائر في جذر تاريخ البشري.