عُقد في مطلع هذا الأسبوع، المؤتمر العلمي السنوي لمؤسسة الفكر العربي، في مدينة أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة. وكان لي شرف المشاركة في هذا المؤتمر بإعداد ورقة حملت عنوان: «قراءة تحليلية لدور مراكز البحوث في دول مجلس التعاون الخليجي».
وليس من شك في أنَّ الدوافع لاختيار هذا الموضوع، للمناقشة هذا العام، هي أهمية هذه المراكز في الدفع بعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان المجلس. وذلك ما أثبتته التجارب التاريخية في العالم المعاصر.
فقد شكّل حضور مراكز البحوث، على مستوى العالم، معياراً يُقاس بموجبه مستوى تقدم الأمم ونهوضها. ولم تعُد أنشطة هذه المراكز مقتصرة على مجالات معينة، بل عملت بطرق أفقية، لمعالجة مختلف القضايا العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وصار كل مركز يركز على حقل خاص، يستجلب الباحثين والمختصين، في مجال عمله. فحيث تنشط هذه المراكز كمّاً ونوعاً، تبرز معالم التنمية والتصنيع ومكننة الزراعة، وتتسع دائرة المؤسسات العلمية، وحيث يغيب حضورها، تغدو الأحوال بعكس ذلك.
لقد باتت هذه المراكز، من أهم أدوات التأثير في عملية صنع السياسة العامة بالدول الحديثة. وفي هذا السياق يشير التقرير الصادر العام 2016، عن جامعة بنسلفانيا، إلى أن من أهم أسباب الصعود الكبير، لمراكز البحوث، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، ونهاية احتكار الحكومات للمعلومات، بسبب الانتشار الواسع للشبكة العنقودية. إضافة إلى زيادة التعقيدات، والطبيعة التكنولوجية، للقضايا الإجرائية، وتضخم أجهزة الدولة. علاوة على تضاعف أزمة الثقة بالحكومات ومسئولي الأجهزة التشريعية للدول.
كما يشير التقرير إلى دور العولمة ونمو أدوار الفاعلين خارج أجهزة الدولة، في النمو المطرد لمراكز البحوث والدراسات، والحاجة إلى معلومات سريعة ودقيقة، وتحليلها بطريقة مناسبة، ومن قبل أشخاص مؤهلين، وفي الوقت المناسب.
لقد جعلت هذه الأسباب من مراكز البحوث والدراسات، من أهم الفاعلين في صنع السياسات المحلية والإقليمية والدولية، بسبب الطبيعة المُعقدة للمشكلات اليومية المعاصرة، التي نتجت عن الثورة المعلوماتية، والاستخدام الواسع للشبكة العنكبوتية.
كما أضفت هذه التطورات، أوضاعاً مركبة، على عمليات صنع القرار. وقد أوجب ذلك، اعتماد درجة عالية من الحرفية؛ لكي يكون بالإمكان صناعة قرارات وسياسات صائبة، بكفاءة وفعالية.
إن تضخم الجهاز البيروقراطي للحكومات يُبرز حاجة أكثر، أمام صانعي السياسات، إلى الحصول على معلومات وتحليلات، على درجة عالية من الدقة، ليس بإمكان موظفي الدولة توفيرها، من غير دعم المراكز البحثية، عالية الكفاءة.
ولذلك برزت الحاجة الماسة، إلى مراكز الفكر لتكون جسراً واصلاً بين الأكاديميين وصناع السياسة العامة. وقد غدت هذه المراكز من أهم ركائز الحكم الرشيد في النظم الحديثة، حيث تقوم بتقديم توصيات وسياسات بديلة، لمساعدة صانعي القرار، على تبني قرارات صحيحة، وصياغة سياسات تعكس حاجات المجتمع، وتتسق مع التحولات بالساحة الدولية، وبما لا يتعارض مع المصلحة العامة.
ويختلف تأثير هذه المراكز، بحسب قربها أو بعدها من صانع القرار، وتأثيرها يتوقف على مدى الاستجابة لها. ويبرز ذلك بوضوح، عند دراسة السياسات التي تبنتها الحكومة «الإسرائيلية»، كنوع من الاستجابة لتوصيات تلك المراكز.
ولذلك لم تكن صدفة أن يشير الرئيس السابق للكيان الصهيوني، شمعون بيريز، في معرض وصفه ركائز المستقبل التي تعتمد عليها حكومة بلاده، في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، إلى أن القوة في العقود القادمة، في الجامعات، وليس الثكنات. وقد عبر بيريز بقوله هذا عن مدى اهتمام الكيان الصهيوني بالبحث العلمي، باعتباره ركيزة استكمال مخططه الاستيطاني، بل، ومصدر القوة وفقاً لتعبيره.
ولكي يكون للممارسة البحثية تأثيرها، في إيجاد نوع من التراكم المعرفي والأكاديمي في فهم وتحليل النظم السياسية، فإن من الأهمية بمكان، أن تستند إلى عدة مرتكزات، أهمها أن من يقوم بتنفيذها والمشاركة في إعدادها ينبغي أن يكونوا باحثين ينتمون إلى التخصصات التي يتناولون مجالاتها، كالاقتصاد والاجتماع والسياسة والإدارة والأنثربولوجيا والتاريخ. ذلك أن من أبرز خصوصيات السياسة في البلدان العربية، ارتباطها بالتاريخ والتقاليد والثقافة والهياكل الاجتماعية. وبالتالي فإن فهم الحياة السياسية، بشكل علمي وأدق، في أي بلد عربي، يتطلب معرفة بهذه المجالات، وتكاملاً منهجيّاً، في تحليل الظواهر السياسية من ناحية أخرى.
وفي هذا السياق، من المهم تشجيع البحوث التجريبية، في دراسة قضايا ومشكلات التطور السياسي في الوطن العربي، وتحقيق التكامل بين التحليل الكمي والتحليل الكيفي في دراسة هذه القضايا.
ويستتبع ذلك بالضرورة الاهتمام بالدراسات المقارنة؛ لأنها تتيح فهم المتغيرات السياسية التي تحدث، بشكل أفضل، وإدراك حدود الخاص والعام في التطورات السياسية الجارية. ولعل من المفيد أكثر أن تشمل المقارنة ما هو أكثر من حالتين.
ولا جدال في أن تطوير المؤسسات البحثية، يقتضي التركيز على نقطة البداية، وهي الاهتمام بالمناهج البحثية، في الجامعات، ومعاهد الدراسات العليا، والانتقال بالبحوث من الجانب الوصفي إلى الجانب التحليلي. ولسوء الحظ، فإنَّ الجامعات العربية بشكل عام، ومن ضمن ذلك برامج الدراسات العليا، لا تعطي اهتماماً كبيراً، لدراسة مناهج البحث العلمي، بتشعباتها كافة، ودول مجلس التعاون الخليجي ليست استثناء في هذا السياق.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5214 - الخميس 15 ديسمبر 2016م الموافق 15 ربيع الاول 1438هـ