في ذكرياتنا فرحٌ وحزن، مرحٌ وألم. يبقى التميز للذين يستثمرون أحزانهم، تعالياً عليها وتجاوزاً لها، وللذين يحولون آلامهم آمالا. الإنسان من لحمٍ ودم، وليس كل البشر بنفس الطاقة والقدرة التي تمكنهم من إحداث ذلك التغيير، لكن بيننا من أثبتوا بمزيدٍ من ذكريات الآلام، بل وهم يعيشونها ويحيونها لحظةً بلحظة، أنهم قادرون على صنع الفارق والمضاد لمثل ذلك الواقع الذي ينهار أمامه كثيرون.
في مثل تلك الذكريات ما يُقوِّي أيّا منا ويمنحه مخارج ما كانت لتتهيأ له لو كان سادراً في الدعة والنعم وخلو نفسه من المشاكل والآلام. ذكرياتٌ مثل تلك تتيح لك انتباهة أو بعض انتباهة للذين من حولك. للذين لم تكن تراهم بالعين المجردة. لم تكن تبالي بما يعانون، أو تهتم بنا يكابدون. كأن العالم وجد كي تكون فيه مرفّها وحدك، وكي تتنقل من رفاهيةٍ إلى ما يفوقها. تمنحك مثل تلك اللامبالاة رصيداً معدوماً في الحس، ونفياً من الإنسانية التي من المفترض أن تكون أحد المنتمين إليها.
تتيح مثل تلك الذكريات درساً في إمكانيات الإنسان الخرافية والعملاقة. إمكانات تُبرز دوره الحقيقي، ومكانته اللائقة به في هذا العالم. المكانة التي فيها صكٌ من خالق الأكوان بتكريمه. ولا يمكن أن يكون مكرماً ويستسلم لضعفٍ ووهنٍ وآلام وحصار ذكريات. كلها تكون محض وهم أمام ما منحه الله من طاقات هو من يعطلها، وهو من يؤجلها بفعل غمامة هم، أو بفعل سحابات وهم تحول بينه وبين رؤية طاقاته، وما يمكنه من تغيير كثير ممن يظن أنه قدره الذي لا مبدل له حتى في الأمور التي له يد في الانعطاف بها وتغييرها لصالحه، وبالتالي لصالح البشر ممن ينتمون له ومن حوله.
في الذكريات الأليمة ما يجعلك ترى الصورة المقابلة في الحياة. تلك التي يهرب منها كثيرون، ولا يؤمن بها كثيرون أيضا، وخصوصاً من جاؤوا إلى العالم وهم بمنأى عن مثل تلك الذكريات بفعل رفاهية وسعة في العيش وانفصالاً عمَّا يكدّر وينغّص العيش، باستثناء الموت الذي لا يد لهم فيه، ولا أجهزة تحكّم أو أموالاً يدفعونها للحيلولة دون قيام الموت بدوْره.
وفي الجانب الآخر من الصورة، تبرز ذكريات فرحٍ ومرّ، تلك التي تحفزنا وتحرضنا على كسر دائرة حصار ربما وضعْنا أنفسنا فيها بخيارنا من دون أن نشعر، باستسلامنا وخضوعنا لواقع قطعْنا بألا مجال لتغيير مساراته، ليعبث بنا تبقى فينا من طاقات نريد لها أن تتوارى وتتلاشى.
والذكريات في جانبها المفرح خصوصاً، خزّان نعود إليه كي نأخذ حصتنا من القوة والدافعية واستئناف الأدوار التي يجب أن نضطلع بها لأنها تشبهنا وتشبه أرواحنا، الأدوار التي حالت بيننا وبينها آلام ومحن. كما أن الذكريات في جانبها المؤلم والجارح مخزون حصانة كذلك. فكثير من البشر صنعت منهم الآلام والمحن عظماء، بعظمة قدرتهم على تجاوزها، وعبقرية التعامل معها واستثمارها.
ذكريات نحن من يضاعف سوءها أو يضاعف حُسْنها. المؤلم منها والمفرح، تلك التي تصعد بنا سموًّا بأنفسنا، أو نكوصاً ونزولاً بها الى حيث لا يليق بإنسانيتنا، والتكريم الذي خصنا الله به.
وأكثر الناس قدرة على تجاوز ذكرياتهم السيئة أولئك الذين لديهم قدرة ومبادرة فطرية نحو تحقيق السعادة والفرح للذين يمرون بأطوار الشعور عزلتهم عن العالم، وأنهم وحدهم الذين يعيشون كل صور ومعاني المأساة.
وحتى أولئك الذين ينعمون بذكرياتهم المفرحة ومازالوا يعيشون تفاصيلها، سيشعرون بأضعافها حين يبادرون بصنع المفرح للذين يفتقدون ملامح الفرح، ما يدفعهم إلى الشعور بافتقاد معنى الحياة وجدواها.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5213 - الأربعاء 14 ديسمبر 2016م الموافق 14 ربيع الاول 1438هـ