على طاولة حوار سياسي شبه أحاديّ، قاطعته قوى سياسية معارضة ووازِنة في البلاد، انعقدت في العاصمة الموريتانية نواكشوط جلسات الحوار الوطني بمشاركة عدد من الأحزاب والنقابات والشخصيات المستقلة في الفترة ما بين 29 سبتمبر/ أيلول إلى 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وقد تمخّض عن هذا الحوار دعوة إلى استفتاء على الدستور ودعوة إلى تغيير العلم والنشيدَيْن الوطنيَّيْن.
وقد لقيت هذه المخرجات معارضة شديدة؛ إذْ نظَّمت المعارضة من بعد مقاطعتها للحوار مسيرة حاشدة مساء السبت الموافق 29 أكتوبر 2016، عبّرت من خلالها عن رفضها القاطع لنتائج الحوار، وخاصة فيما يتعلق بالعلم والنشيد الوطنيّين، واعتبرت أيّ تغيير فيهما مسّاً وعبثاً برموز الوطن.
تبدو حكومة الرئيس الموريتانيّ محمد ولد عبد العزيز حريصة على الحوار، غير مستبدة بالقرار، وها هي تلجأ إلى استفتاء شعبي بشأن التعديلات الدستورية، والتي يتمثّل أهمّها في استحداث منصب نائب للرئيس، وإلغاء مجلس الشيوخ «الغرفة الثانية من البرلمان»، وتغيير علم البلاد ونشيدها بإضافة الألوان الحمراء للعلم القادم، واختيار نشيد جديد للبلد، فضلاً عن إقرار مبادئ تمجّد المقاومة الوطنيّة، وتحضّ على الوحدة الوطنية وإرادة الشعب.
وفي سياق ردّهم على تشكيك المعارضة في مخرجات الحوار، اعتبر أنصار الحكومة والرئيس الموريتانيّ أنّ الحوار قد شاركت فيه مجموعات «تختلف مشاربها الفكرية والسياسية وتجتمع وتتلاقى في محور الانتماء إلى الوطن»، بل واعتبروه «حواراً بمفهومه التام معنًى ومبنى، وإن خالفه وتخلّف عنه طيف كبير من السياسيّين والحقوقيّين والاجتماعيّين».
ليس هذا فحسب، وإنّما اعتبرَ أنصارُ الحوار والتعديل الدستوريّ المرتقب، أنّ الحوار في حدّ ذاته إنجازٌ نوعيّ في سياق محيطنا العربيّ الإسلاميّ، الذي يشهد انقساماً واقتتالاً داخلياً وخارجياً في أبشع صور للخلاف والعداوة والانقسام منذ قرون! وأنّ الهدفَ من التعديلات المقترحة في مخرجات هذا الحوار تعزيزُ الممارسة الديمقراطية، والدفع بعجلة التنمية في البلاد. كما اعتبروا أنّ مطلب الاستغناء عن مجلس الشيوخ، واستعاضته بمجالس جهويّة سيخدم المواطن كثيراً في قابل الأيام، ورأوا أنّ إعلان الرئيس عدم ترشحه لمأموريّة ثالثة يمثّل منعطفاً حاسماً، ودفعاً اعتبارياً قوياً لمخرجات الحوار، وكذلك صفعة قويّة للمعارضة الرافضة للحوار من جهة؛ وللمبالغين في التطبيل والدعاية لفترة رئاسيّة ثالثة للرئيس الحاليّ!
من جهة أخرى رفضت أحزاب معارضة في «المنتدى الوطنيّ للديمقراطيّة والوحدة» و»حزب تكتّل القوى الديمقراطيّة» من حيث المبدأ، المشاركة في هذا الحوار بسبب انعدام ضمانات حقيقيّة لتطبيق مخرجاته كما حدث في مرّات سابقة؛ فقد انعدمت الثقة بين النظام ومعارضيه، أو تكاد، منذ ما عرف باتفاق داكار صيف 2009 الذي أخرج البلاد من مأزق سياسيّ خطير؛ لذا تطالب المعارضة بضمانات حقيقية حتى لا يتكرّر نفس السيناريو مع هذا الحوار السياسيّ الجديد.
كما اعتبرت المعارضة، ولا سيما «المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة» أكبر تشكيل سياسي معارض في البلاد، وتكتل «القوى الديمقراطية»، أنّ الحوار الأخير لم يهتم بالقضايا الأساسية ذات الأولوية للبلد، وأنّ التعديلات الدستورية المقترحة ليست مخرجات حوار وطني حقيقي؛ لأنها تقتصر على الاقتراحات التي أعلن عنها الرئيس محمد ولد عبدالعزيز. ودعت المعارضة إلى إفشال الاستفتاء ومنع التعديل الدستوري، وأكّدت أنّ تكريم المقاومة يمكن أن يتمّ في مجالات كثيرة، لا من خلال وضع خطوط حمراء، وتحركت بنشاط من خلال حملة «محال تغيير العلم»، حيث رُفِعت خلال وقفة شعبية مساء السبت (29 أكتوبر الماضي) الأعلام الوطنية، وتمّ على هامشها توزيع مئات الأعلام الصغيرة على أصحاب السيارات والمارة الذين تفاعلوا إيجابياً مع الوقفة. واغتنمت المعارضة شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الموافق لاحتفالات البلاد بعيد الاستقلال، لتصعيد حملة الدفاع عن العلم والنشيد الوطنيَّيْن، وجعلوا من شهر نوفمبر شهراً لرفع العلم الوطني في كل مكان، وذلك للتعبير عن تمسكهم بهذا العلم.
لاشكّ أنّ الحوار الذي شهدته موريتانيا غرضه حلّ الأزمة السياسية المستعصية التي تمرّ بها البلاد، وهي أزمة متشعبة الأسباب والأبعاد. وقد كان الأمل معقوداً على هكذا تحرك سياسيّ لحلّ مشاكل المواطنين الملحة مثل التخفيف من غلاء المعيشة، أو الحد من البطالة، أو التقليل من نسب الفقر والأمية، أو مجابهة تردي التعليم والخدمات الصحية أو توفير الأمن للمواطنين أو محاربة الرق ومخلفاته، غير أنّ مخرجات الحوار وتوصياته قد أدخلت البلاد من جديد، في أزمة سياسيّة جديدة لا شك أن البلاد، والرئيس، والحكومة، والمعارضة في غنى عنها.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5211 - الإثنين 12 ديسمبر 2016م الموافق 12 ربيع الاول 1438هـ
تبد قضايا الشعب الموريتاني كما تفضلت أعمق من مجرد تعديل نشيد وطني أو إضافة خطوط حمراء في العلم
أزمة موريتانيا جد خطيرة لأنها لم تعالج قضية الرق إلى اليوم
الشكر موصول للأستاذ سليم الذي يحاول أن يغوص في مشاكل القارة السمراء وخاصة الشق العربي منها منطلقا من شمال القارة وصولا إلى غربها.
الأزمة في موريتانيا تبدو في ظاهرها أزمة شكلية وسطحية، لكنها في الحقيقة عميقة، إذا علمنا أن هذه الجمهورية تجمع منذ آلاف السنين، بين أعراق وثقافات مختلفة، منها عربية وأمازيغية وإفريقية...لذلك فإنّ كلّ تغيير في هذا البلد يعدّ من الصعوبة بمكان...بيئة ترفض التغيير ..
أحسنت الختام في مقالك أستاذ:
كان الأمل معقوداً على هكذا تحرك سياسيّ لحلّ مشاكل المواطنين الملحة مثل التخفيف من غلاء المعيشة، أو الحد من البطالة، أو التقليل من نسب الفقر والأمية، أو مجابهة تردي التعليم والخدمات الصحية أو توفير الأمن للمواطنين أو محاربة الرق ومخلفاته، غير أنّ مخرجات الحوار وتوصياته قد أدخلت البلاد من جديد، في أزمة سياسيّة جديدة