العدد 5211 - الإثنين 12 ديسمبر 2016م الموافق 12 ربيع الاول 1438هـ

أملهاينز تقرأ النزعةَ الأهليةَ والاشتراكيةَ في جداريات دييغو ريفيرا

تقدِّم بورتريهاً عن قُرْب لأهم أعماله وتقف عند بيان «الثلاثة»...

دييغو ريفيرا
دييغو ريفيرا

تحضر الكاتبة والمُترجمة المكسيكية إيرمغالد أملهاينز، مؤلفة كتاب «جان لوك غودار والقضية الفلسطينية»، والذي تتبَّع فيه مواقف وأعمال المخرج الفرنسي، وأحد أبرز أعضاء حركة الموجة الجديدة السينمائية، لُماماً في المطبوعات والدوريات العربية، وهذه المرة في الدورية الثقافية اللبنانية المتميِّزة «بدايات» في عددها الثالث عشر لشتاء العام 2016، في مقالها «النزعة الأهلية والاشتراكية في أعمال دييغو ريفيرا»؛ حيث تُقدِّم بورتريهاً عن قرب للرسَّام المكسيكي البارز، وأحد مؤسسي فن الجداريات في بلاده والعالم، والذي وُلد في غواناغاتو في 8 ديسمبر/كانون الأول 1886، وتوفي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1957، كما تُقدِّم بورتريهات لأهم أعماله التي وضعته ضمن أهم فناني الرؤية الاشتراكية في القرن الماضي. في المحصِّلة يركِّز البورتريه على القراءة النقدية لتلك الأعمال، كما لا يبتعد عن قراءة طبيعة عصره وعلاقاته بكبار الفنانين وقتها، ومواقفه السياسية والأيديولوجية ما قبل الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى رحيله عن هذا العالم.

في مقالة أملهاينز، وقوف عند «بيان من أجل فن ثوري مستقلّ»، والذي ظهر في العام 1938 ووقّعه كل من: أندريه بريتون ودييغو ريفيرا وليون تروتسكي. في البيان قراءة لطبيعة الالتزام في الفن ضمن مرحلة تاريخية لم يبدأ فيها بعد جحيم الحرب العالمية الثانية.

تضعنا أملهاينز أمام إحدى مقولات ريفيرا، في مقابلة أجرتها معه مجلة «آموتا» البيروفية: «ليس الفنان الثوري بمبدع روائع فنية يثير الاستهزاء أو التمجيد؛ بل هو مقاتل من مقاتلي الطليعة (...) وهو أحياناً مقاتل غِواري بالسلاح (...) إنّ الفنان يكون ثورياً أو لا يكون (...) والشغف الطاغي عنده في زمننا الحاضر ــ كما في أي زمن آخر ــ يجب أن يلتقي مع التطلعات المشتركة للجماهير الشعبية».

تبدو مثل تلك المقولات منتهية الصلاحية في زمن أخذت فيه الكولونيالية وجهاً آخر تبدَّى ربما في وجه من وجوه العولمة، والنيوليبرالية الاقتصادية ضمن نسختها الأميركية التي لا تخلو من توحُّش.

النبيل الأحمر

تستأنف أملهاينز تقديم البورتريه بتذكيرنا بأن ريفيرا مولود في أسرة من النبلاء الإسبان. لنقف على خروجه الذي يبدو متطرِّفاً على المنظومة القيمية التي لا يمكن فصلها عن طبيعة حياة تلك الطبقة في المجتمع الأوروبي. كأنها تُقدِّم هنا ما يمكن تسميته بـ «النبيل الأحمر»، انسجاماً مع تسميات عرفها الشرق بالنسبة إلى الذين يخرجون على الناس بأفكار ثورية وهم ينحدرون من أُسَر مَلكية؛ حيث أطلق على بعضهم تسميات من قبِيل «الأمير الأحمر»، أو «الشيخ الأحمر».

في مرحلة تفتُّح موهبته الفنية، واتضاح ميوله، التحق ريفيرا بأكاديمية سان كارلوس للفنون، «وفي سنوات الدراسة تعرّف إلى الحفّار جوسي غواديلوبي بوسادا الذي سيكون له تأثير كبير على أعماله. وبعد ست سنوات من الدرس في أكاديمية سان كارلوس، تمرّد على الواقعية شبه الفوتوغرافية وبدأ العمل على نحو مستقلّ. وفي العام 1907 حصل على منحة دراسية في أكاديميّة سان فرناندو في مدريد بإسبانيا، ثم عاش بين 1911 و 1920 في باريس، حيث تمكّن من الأساليب الطليعية. لم يكتفِ بالتكعيبية، فدرس فن رسم الفريسكو في إيطاليا (الفريسكو، واحد من أشكال الفن التي يتم فيها استخدام الجبس كمادة لكسوة الاسقف او الحيطان والرسم عليها بشكل فنى) ليعود إلى المكسيك في العام 1921».

تبدو أملهاينز غير مهتمة بالتسلسل الزمني في تقديم البورتريهات لجداريات وأعمال ريفيرا، ربما يكمن السبب وراء ذلك إلى الأهمية الكبرى لبعض مراحل تجربته، وأحياناً، أهمية الأعمال التي قدَّمها، ما يدفعها إلى القفز على الترتيب الزمني على حساب ترتيب أهمية الأعمال، وأحياناً بعض المفاصل في حياته ومواقفه.

تضعنا أملهاينز أمام «بيان من أجل فن ثوري مستقلّ»، والذي ظهر في العام 1938 ووقّعه كل من: أندريه بريتون ودييغو ريفيرا وليون تروتسكي؛ حيث «يدين الموقّعون الخطر الذي يتهدّد الحضارة من قبل الفاشية مُجسَّدة بألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي». كل ذلك قبل اشتعال نيران ودوي مدافع الحرب العالمية الثانية؛ إذ يصفون في البيان «ظروف الإنتاج الفكري على أنها منحطّة، ويُدينون تبعية فنانين في ظل النظامين وتنكّرهم بالتالي لمبادئ الفن وقيَمه».

الجداريات والنزعة الأهلية

تتحدَّد رؤية موقِّعي البيان، كما تورد أملهاينز ، في «أنّ كلا النظامين يشتغل وفق أشكال اجتماعية مُعادية للفرد». وفي معارضتهم للستالينية، يتعاهد بريتون وريفيرا وتروتسكي على العمل من أجل تحرير الفن، ومن أجل قيام فن يعمل لصالح الثورة الاشتراكية الحقّة.

كتبوا يقولون في البيان المشار إليه: «الفن الحق، لا يكتفي بأن يقدّم منوّعات من نماذج جاهزة، وإنّما يُصرُّ بدلاً من ذلك على التعبير عن الحاجات الجوَّانية للإنسان وللإنسانية في عصره ــ إن الفنّ الحقّ هذا لا يستطيع إلّا أن يكون ثورياً وإلّا أن يعمل من أجل إعادة التكوين الشاملة والجذرية للمجتمع. وهذا هو واجبه، على الأقلّ من أجل تخليص الإنتاج الفكري من القيود التي تكبِّله، وتمكين الإنسانية من أن ترقى إلى تلك الذُّرى التي بلغها عباقرة معزولون في الماضي. إنّنا ندرك أنّ وحدها الثورة الاشتراكية هي القادرة على تمهيد الطريق من أجل ثقافة جديدة».

وتشير أملهاينز إلى أن موقِّعي البيان الثلاثة، رأوا أن «الفن الحق هو بالضرورة ثوري لأنّه يمكّن الإنسان والفن معاً من الانعتاق من القيود التي فرضتها الرأسمالية والاشتراكية البيروقراطية على المجتمع». فالفن الحق، في رأيهم، قادر على إعلان قدوم مجتمع المستقبل وإعادة بنائه. وقد انحازوا إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة والاشتراكية معاً كأداتين من أجل تحقيق انعتاق الإنسانيّة، فيما أدانوا إساءة استخدام هذه وتلك في الاتحاد السوفياتي (عن طريق النسخة «البيرقراطية» أو الستالينية من الاشتراكية والمجتمع المنحط الذي أنشأته).

وتكتب أملهاينز إن هذا الحد المزدوج للتكنولوجيا ــ بما هو أداة إخضاع وتحرير معاً ــ سيكون موضوعاً مركزياً في جداريات دييغو ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي. فقد نشأت تلك الجداريّات في إطار النقاشات حول نمط الحداثوية المميز لما يجب أن تكونه المكسيك بعد الثورة. «وضمّن ريفيرا جدارياته روايته الخاصة عن النزعة الأهلية، وهي التيار الفكري والثقافي والسياسي والأنثروبولوجي الذي يركّز على إحياء الثقافات الأهلية ودمجها في الدولة الوطنيّة». وتحقيقاً لانضواء السكّان الأصليين في ظل سلطة الدولة الوطنيّة، «جرى تمجيد الثقافة الأهلية بما هي جزء من تاريخ الوطن من خلال برامج رسمية متنوعة في مجالات التربية والثقافة والمؤسسات والسياسات».

وتشير أملهاينز إلى أن ريفيرا سيقدّم لاحقاً، بناءً على المُثُل الاشتراكية وعلى نقد الرأسمالية، رؤية للنزعة الأهلية بديلة عن تلك التي تعرضها الدولة بمثل ما هي بديلة عن الاشتراكية السوفياتية. و «مع أن هذه السرديّة البصرية، كانت تتعاطى مع تناقضات عدة، فقد حوّلت نتاج ريفيرا الفنّي نتاجاً ثورياً يقارب ما اعتبره هو وبريتون وتروتسكي (الفنّ الحقّ) في بيانهم.

تناقضات الحداثة في الجداريات

وفي اشتغالها على القراءة النقدية للزمن الذي أنتج مثل تلك الأعمال ومن بينها الجداريات، وتقديم قراءة فنية ونقدية لطبيعة تلك الأعمال، وتفكيك «البيان الثلاثي»، تعود أملهاينز إلى وضع اللمسات المُكمِّلة لبورتريه ريفيرا، بالتركيز على جدارياته؛ ومدى اتضاح «النزعة الأهلية» في كثير منها؛ إذ في العام 1922 نفّذ جداريته الأولى في مدرّج بوليفار في المدرسة الوطنية العليا، وهي تصوّر نقاشاتٍ جارية في زمنه عن القومية والوطنية، واحتقار العالم الأكاديمي لما هو شعبي، وضرورة استنقاذ العالم «قبل الإسباني» والصلات القائمة مع الديانة والثقافة والصناعة الأوروبية. «تعود لوحته الأولى إلى العام 1915 وعنوانها (مشهد زاباتيستي: المغاوِر)، المعلّقة في المتحف الوطني في مكسيكو العاصمة، والتي استوحاها من الثورة المكسيكية (1910 - 1920)، وتتضمّن عنصرين أساسيين من سرديّة ريفيرا الثورية: الاشتراكية والنزعة الأهلية».

وتضعنا أملهاينز أمام حادثة ترافقت مع رسمه الشعوب الإفريقية الأميركية والقمع في «وول ستريت» وما أسْمته «انحطاط الطبقات العليا»، تحدّى فيها دييغو أفراد الأسرة التي كلّفته رسم الجدارية واستفزّهم؛ إذ طالبه روكفلر باستبدال وجه لينين بوجه شخص مجهول، وحجّته أنّ وجود القائد الشيوعي في الجدارية يستفزّ عابري السبيل قرب العمارة. رفض دييغو، فدُمّرت الجدارية. «أثار ذلك سجالاً حادَّ الاستقطاب يدافع فيه البعض عن الفنان وعمله بحجّة أن تدمير الجدارية من قبيل فرض الرقابة على الفن، فيما دافع آخرون عن أسرة روكفلر، وحجّتهم أنّ الجدارية تكليفٌ خاص قائم على ملك فردي فيحق للمالك أن يدمّر المواد التي تتكوّن منه». وعند عودته إلى المكسيك بعد عام من ذلك، كلَّفته الحكومة المكسيكية بإعادة بناء الجدارية في «قصر الفنون» بمكسيكو العاصمة، حيث لم تُثر الجدارية ردود الفعل ذاتها التي أثارتها في نيويورك، مركز الرأسمالية المالية».

التفاوت في التطوُّر التاريخي

وتوضح أملهاينز بأن تناقضات الحداثة في الجداريّات التي رسمها بين 1923 و 1928 في وزارة التربية، تكمن في أن ريفيرا كان قد عزّز رؤية لنزعة أهلية بديلة من خلال تصويره التفاوت في التطوّر التاريخي. فمثلاً، في «(ساحة العمل) في وزارة التربية، صوّر التقدم الذي حمله التصنيع والعلوم والتكنولوجيا، ولكن تظهر هذه جميعها منفصلة عن الواقع المعاصر للسكان الأصليين. وعلى رغم ذلك، فمَشاهد العلوم الأوروبية الحديثة ــ كما هي مجسّدة في لوحة (الكيمياء) ــ تقابلها مشاهد من الفكر قبل الإسباني القديم، كما في مشهد (الجيولوجيا). هكذا تُعرَض على المُشاهد رؤية شاملة تعدّدية لتاريخ العلوم، ليس بما هو تاريخ غير أوروبي فحسب وإنما بما هو أيضاً إنجاز غير مكتمل للثقافتين الأوروبية وغير الأوروبية، وبما هو جزء من مسار أوسع من التطور التاريخي المتفاوت».

وتوضح أملهاينز بأنه على الغرار ذاته، «ألّف ريفيرا في العام 1953 جدارية في مستشفى لا رازا في مكسيكو العاصمة عنوانها (تاريخ الطب في المكسيك: الشعب يطالب بعناية صحية أفضل)»؛ حيث يتناول فيها الطب قبل الإسباني بالتوازي مع الطب الأوروبي الغربي، مشيرة إلى أن تلك النظرة التعدُّدية للطب تعبِّر «عن تهجين في اللغة البصرية، إذ يصوّر ريفيرا شخوصاً ممّا قبل الحقبة الإسبانية من أمثال تلازولتيوول (إلهة الذرة) مستخدماً تقاليد رسم عائدة إلى عصر النهضة الأوروبي من أجل توليد أشكال واقعية. هذا التهجين بين الأزمان والأشكال والمعارف المختلفة، حيث يتعايش الحاضر مع الماضي ويغذّي واحدهما الآخر، هو نفسه ما يميّز لوحة (مشهدٌ زاباتيستي) المرسومة العام 1915 حيث تشهد هذه الجدارية على تناقضات الحداثة غير المحلولة: ابتعاد التكنولوجيا والعلوم عن الواقع الفعلي للشعوب الأصليين، والتعايش والتنافر معاً بين الماضي التاريخي والحاضر، وطغيان البيروقراطية على الاشتراكية وفشل نزوع هذه الأخيرة إلى الاتساق. فإذا كانت النزعة الأهلية الرسمية تُمثّل تمجيداً سطحياً للثقافة قبل الإسبانية، فإن ريفيرا، في نقلة جذرية، يقدّم لنا ماضياً قبل إسباني متشابكاً مع قضايا العِرق والطبقة، بمثل ما يصوّر لنا صورة مميّزة لاشتراكية المستقبل مخصوصة بواقع المكسيك بعد الحقبة الكولونيالية».





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً