العدد 32 - الإثنين 07 أكتوبر 2002م الموافق 30 رجب 1423هـ

العامل «لولا» اكتسح قلوب الفقراء قبل اكتساح صناديق الاقتراع

من هو رئيس جمهورية البرازيل المقبل؟

بول اشقر comments [at] alwasatnews.com

درجت في البرازيل خلال الشهر الماضي، عندما بدت حرب العراق وشيكة، مزحة مفادها أن محاسب جورج بوش ابلغ في نهاية اكتوبر/ تشرين الاول عن حصيلة أعمال الشهر على الشكل الآتي: «سيدي الرئيس، ربحنا العراق ولكن... خسرنا البرازيل»!.

تتجه البرازيل بقوة نحو انتخاب «لولا» رئيسا للجمهورية في محاولته الرابعة، وكان في المرات الثلاث الماضية حل في المركز الثاني. هذه المرة، حوالي 40 مليون برازيلي سيقترعون لعامل ميكانيك الخراطة، والسؤال الذي يراود خبراء الانتخابات يدور حول اذا «لولا» سينتخب في الدورة الاولى ام سيتأجل الحسم للدورة الثانية بعد ثلاثة اسابيع، بسبب الفارق الشاسع الذي يتمتع به «لولا» على اقرب منافسيه، النتيجة كما تبدو محسومة لمصلحته في كل الاحوال. الفارق الاساسي يكمن في ان الفوز في الدورة الاولى سيوفر على الاقتصاد الاكبر من العشرة الاوائل في العالم خضات اضافية نتيجة مضاربات مالية قد تجد في الدورة الثانية بيئة مؤاتية لها.

القائد النقابي

ولد «لولا» في 6 أكتوبر (يوم الانتخابات نفسه) العام 1945 في بيئة معدومة من ارياف ولاية بيرنامبوكو (عاصمتها مدينة ريسيف في شمال شرق البرازيل). اسم «لولا»، وهو لقب، يعني الحبّار في اللغة البرتغالية. وكثيرا ما يعرف البرازيليون بألقابهم اكثر من اسمائهم، كما يعلم محبو كرة القدم. اتى ابن السابعة برفقة امه واخوته السبعة إلى ولاية سان باولو، محرك الاقتصاد البرازيلي (ناتجها القومي أكثر من ناتج الأرجنتين). ومقصد الهجرة الداخلية، على خطى مئات الآلاف من الريفيين الذين يهاجرون كل سنة باتجاه الجنوب بحثا عن لقمة العيش وعن فرص عمل. ركبت عائلة «لولا» خلال اسبوعين في تلك العربة المقفلة بالقضبان التي وصفها الروائي جورجي آمادو ويطلق عليها اسم «قفص الببغاء».

عاشوا تسعة في غرفة صغيرة، وباع الولد «لولا» فستقا في الشارع ومسح الاحذية وعمل في مصبغة. وعندما بلغ الـ 14 سنة، دخل قطاع الميكانيك، وتابع دروس التعليم المهني ليلا خلال ثلاث سنوات حتى تخرج مع شهادة عامل «مخرطجي». كان يعمل في الدورة الليلية، وهو في الـ 19 من عمره، عندما تسلل النعاس إلى زميله على الآلة فقضمت له خنصره الايسر.

وقتها، كان اخوه الكبير، القس بيتو، وهو كاهن تقدمي متأثر بـ «لاهوت التحرير»، يشجعه على قراءة بيانات الاحزاب وعلى الانخراط في العمل النقابي.

بعد الانقلاب العسكري العام 1964، جذبت البرازيل شركات كبيرة مثل «فورد» و«وفولسفاكن» التي أسست وحدات انتاج ضخمة في المدن المحيطة بمدينة سان باولو العملاقة من اجل استيعاب حاجات سوق ناشئة وواعدة (عدد سكان البرازيل 175 مليونا). في هذه المجتمعات العمالية، اكتشف «لولا» ورفاقه في نقابة عمال الميكانيك سر قوتهم: انتخب «لولا» العام 1975 رئيسا للنقابة. وخلال ولايته، العام 1978، عرف القطاع اول اضراب شامل لتحسين ظروف العمل، واخذ بطبيعة الحال مضمونا معاديا للنظام العسكري ومطالبا بعودة الديمقراطية. امام 150 ألف عامل، خاطب «لولا» العمال قائلا: «بعد اليوم لن يتجرأ احد على التشكيك في قوة الطبقة العاملة». وصار اسمه معروفا في كل البرازيل. إلا ان النظام العسكري تجرأ عليه واقاله من منصبه، فعاد العمال وانتخبوه على رأس النقابة. والعام 1980، عشية اضراب جديد، تم اعتقاله لمدة 30 يوما واقيل مرة اخرى من منصبه. العام 1981، أسس مع زملاء له «اتحاد العمال الموحد». في بداية الاسبوع الماضي، توجه «لولا» إلى مركز صغير للعمل النقابي حيث انطلقت حياته السياسية منذ حوالي ربع قرن، هنا للمرة الاولى منذ دخوله الشأن العام افرط في البكاء كالطفل.

حزب الشغيلة

قرر «لولا» تأسيس العام 1980 مع عدد من العمال والمثقفين والاكاديميين حزب «الشغيلة»، الـ «بي - تي» كما يسمى في البرازيل، لكنه بقي «لولا» قائدا عماليا لا اكثر ولا اقل. العام 1984، كان الحزب من المبادرين في اطلاق اكبر حملة مدنية عرفتها البرازيل وكانت تطالب بعودة نظام الانتخاب المباشر إلى رئيس الجمهورية (وهو التقليد الذي كان سائدا قبل الانقلاب العسكري الذي حوله إلى انتخاب غير مباشر). العام 1986، حصل «لولا» على اكبر عدد من الاصوات في انتخابات مجلس النواب التأسيسي الذي وضع الدستور الجديد بعد انتهاء حكم الجنرالات. وشارك العام 1989 في اول انتخابات رئاسية ونجح في الوصول إلى الدورة الثانية.

وقوة «لولا» الانتخابية مند اربع جولات جعلت اليمين البرازيلي مضطرا إلى اختيار مرشح له نكهة يسارية لمواجهة ظاهرة «الحبّار»، ما يؤدي إلى هذه المفارقة العجيبة في البلد الذي يحمل ارقاما قياسية في الفوارق الاجتماعية، وكل مرشحيه يعرفون عن انفسهم بأنهم يساريون!.

عندما فشل «لولا» للمرة الثانية في الانتخابات الرئاسية، حسم الكثيرون (بمن فيهم داخل الحزب) ان مستقبله السياسي صار من الماضي وعين رئيس شرف للحزب تمهيدا لفتح المجال امام مرشح آخر. إلا ان القاعدة الحزبية ابت إلا ان يمثلها «لولا»، فترشح للمرة الرابعة وكذب المثل الشائع الذي يقول «الثالثة ثابتة». في حال «لولا»، كل شيء يدل على ان الرابعة ستكون الثابتة.

عرف حزب «الشغيلة» كيف يترشح في المجتمع البرازيلي متسلحا بالروح النضالية والنفس الطويل، وهما ميزتان افتقدتهما اكثرية الاحزاب البرازيلية، فأخذ يحصد نتائج طيبة دورة انتخابية بعد دورة. ودخل تدريجيا كل مؤسسات المجتمع السياسي المبني على نموذج الولايات المتحدة: صار له كتل في مجلس الشيوخ ومجلس النواب ومجالس الولايات، وحكام ولايات ورؤساء بلديات (حاليا يحكم حزب «بي -تي» خمس ولايات ويرأس سبع بلديات لعواصم الولايات وعددا كبيرا من المدن التي يقطنها اكثر من 200 ألف نسمة). عرف الـ «بي - تي» اكثر من غيره من الاحزاب البرازيلية التي لا تنشط إلا في المواسم الانتخابية وإلا في مناطق محددة، ان يبني اداة متجانسة وموجودة في كل ولايات البرازيل الشاسعة (مساحة البرازيل توازي اكثر من عشرة آلاف مرة مساحة البحرين وأكثر من أربعين فرنسا).

أكيد ان «بي - تي»، وهو في الاساس حزب عقائدي - ربما اكثر من اللزوم - تعلّم ادارة الشئون العامة واستحالة القطيعة التي حلم بها وورثها من اوهام ثوريي الستينات، ومن الاكيد أكثر انه تدرب في ادارة هذا الكم من الولايات والمدن من شمال البرازيل إلى جنوبه على استيعاب الفارق العميق الذي يفصل بين موقع الاعتراض وموقع ادارة شئون الناس. وباعتراف الرأي العام البرازيلي المؤيد أو المعارض له، لا فرق، تميّز اداء حزب «الشغيلة» على تنوعه بعنصرين مشتركين: اولا، محاربة الفساد، وهي آفة مستشرية في الحياة السياسية البرازيلية فارتبط رصيده بهذا الانجاز. ثانيا، بقي مصرا حتى بعد استلامه السلطة على اشراك الناس في اتخاذ القرارات التي تهم حياتهم اليومية، واشتهرت مثلا حاكمية ولاية بورتو - اليغري (حيث يجتمع كل سنة مناهضو العولمة، بشكل مواز لما يعرف باجتماعات دافوس) بتنظيم استفتاء جماهيري على اولويات الموازنة قبل اقرارها من قبل مجلس الولاية.

في فترة تعتبر نسبيا قصيرة، استطاع «بي - تي» ان يتحول إلى اول قوة يسارية ديمقراطية في اميركا اللاتينية، ما جعل من انتخاب «لولا» حدثا من الطراز الاول على صعيد القارة، وفي رأي البعض حدثا قد يؤثر ايضا على الجيو - سياسية اللاتينية.

مأزق الامل؟

يمثل وصول «لولا» إلى سدة الرئاسة، حتى لو لم يلجأ إلى القطيعة الاقتصادية، قطيعة رمزية هائلة، بمعنى وصول شخص يشبه اكثرية الشعب البرازيلي ويعبر عن قيمة العمال وتطلعاتهم للمرة الاولى في تاريخ هذا البلد الذي لم تحكمه إلا النخب المحافظة وممثلوها. يصادف هذا الانتصار مناخا اقتصاديا عالميا متوترا يضخم من خطر هروب الرساميل، تحديدا تلك التي لا تستهدف إلا المضاربة والربح الصاروخي. سبق وذكرنا عن مخاطر الفترة التي تفصل عن الدورة الثانية. اذا كان هناك من دورة ثانية، ويجب اضافة الآن الفترة التي تفصل الانتخاب عن التسليم في مطلع العام 2003.

هنا، المراهنة قائمة على المصلحة المشتركة التي يجب ان تربط بين رئيس يخرج من السلطة بعد ثماني سنوات وله مصلحة في تسليم بلد منظم إلى حد مقبول وبين رئيس يدخلها لولاية من اربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة ولا يريد ان يرهن ولايته قبل ان تبدأ.

ان تشكيل الحكومة (لا يوجد رئيس حكومة في البرازيل كما في النموذج الاميركي) سيكون بمثابة رسالة قوية للداخل وللخارج معا. وتأتي هذه الرسالة بعد التزام كل المرشحين (بمن فيهم «لولا») بالتقيد ببنود الاتفاق المعقود مع صندوق النقد، الذي يمنح بموجبه البرازيل قرضا جديدا من 30 مليار دولار (تخطى دين البرازيل عتبة الـ 250 مليار دولار، ثلثيه دين داخلي). تسلمت البرازيل 20 في المئة من القيمة، وينتظر الصندوق لاستكمال الـ 80 في المئة الباقية الاستماع إلى التزامات الرئيس الجديد مباشرة، مع ان الاسابيع الاخيرة حملت تصريحات لمدير الصندوق عبر فيها عن اطمئنانه لتطور الحوادث. حصول البرازيل على هذا القرض ناتج عن ضغوط المصارف الاميركية بقدر ما هو ناتج عن التزامات المرشحين.

ايا تكن الاسباب، تبقى البرازيل مكبلة في وصفة الصندوق القائمة على تعايش فوائد مرتفعة مع ازدياد الحمل الضريبي واقتطاع فائض الموازنة الاولية، وهي عناصر تضخم اذ اجتمعت تؤدي إلى الانكماش الاقتصادي وبالتالي ازدياد الدين بدلا من تقليصه. هذا باختصار ما حصل في الارجنتين وأدى إلى ما ادى إليه. المفارقة في هذا المجال ان الولايات المتحدة تلجأ بالذات إلى الوصفات العكسية كلما اردات ان تحرك انكماش اقتصادها. يجوز لسيد العالم ما لا يجوز لغيره.

لهذه الاسباب يعتبر «لولا» وفريق عمله بأن التزامهم بوصفة الصندوق «نقطة بداية وليست نقطة وصول، وإلا دخل الامل في مأزق». سيحاول «لولا» تدريجيا فكفكة العنكبوت المالي الذي التف حول عنق الاقتصاد البرازيلي واعادته إلى سكة النمو والانتاج من خلال «جعل كل دولار أو ريال يوظف في الاقتصاد يتجه نحو الانتاج ويولد فرصة عمل». هذا المشروع الطموح يتطلب شبكة من التحالفات والمفاوضات ارسل رسالتها الاولى عندما اختار رجل اعمال من الحزب الليبرالي على لائحته لمركز نائب الرئيس. ويتطلب ايضا صوغ «عقد اجتماعي جديد قوامه النضوج السياسي ووضوح الرؤية» من اجل وقف زحف الجوع وتحقيق اصلاح زراعي وتدعيم القطاعات المصدرة واعتماد سياسة تستبدل تدريجيا فاتورة الاستيراد وتخفض الفوائد. من وجهة نظر فريقه الاقتصادي، يمثل التصدي للفوارق الاجتماعية والمناطقية التي تنهك البرازيل محاولة لتوسيع السوق الداخلية و«استعادة مسيرة أمة واثقة بنفسها».

في المحصلة الاخيرة، يمثل «لولا» محاولة حقيقية لتداول السلطة في البرازيل ومشروع تحديث اجتماعي عميق يسمح بتدخل شرائح واسعة كانت حتى اليوم مهمشة في الحياة السياسية. مع احترام الفارق في المكان والزمان، يجوز مقارنة هذه المحاولة بالدور الذي لعبته الاشتراكية الديمقراطية في مطلع القرن الماضي في اوروبا الغربية. قبل استحقاق اعادة صوغ السياسة الاقتصادية مع الصندوق في افق السنة الاولى من الولاية، يواجه الرئيس الجديد تحديا جديا في فبراير/ شباط مع اجتماع كل دول الاميركيتين لوضع اسس «السوق الحرة» التي تضغط الولايات المتحدة لاطلاقها بسرعة في ما تعتبره ملعبها الخاص او حديقتها الخلفية. لن يكون ذلك سهلا بوجود «لولا» الذي قال اخيرا: «الحرب التجارية حلت محل الحرب الباردة. سأتفاوض بالتأكيد ولكنني سأعمل كما تعمل السلطة الاميركية: سأدافع عن مصالح شعبي اولا وثانيا وثالثا.

الاتفاق في صيغته الحالية ليس مشروع تعاون، انه مشروع ضم... وفي كل الاحوال، لن يشلح وزير خارجية البرازيل حذاءه في اي مطار أميركي. يشكل هذا الاجتماع مناسبة كبيرة لتحديد موقع «لولا» ومقامه على مستوى القارة.

حتى لو فشل «لولا» في السلطة بسبب الظروف الاقتصادية القاهرة أو لأي سبب آخر، فقد شق في كل الاحوال مع تجربة حزب «الشغيلة» طريقا جديدا في التاريخ اليساري. أما اذا نجح، فلكل حادث حديث

العدد 32 - الإثنين 07 أكتوبر 2002م الموافق 30 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً