كانت الجدات المصدر الأبرز والأهم في الحكاية الشعبية التي تستمد شخوصها وحبكتها من البيئة والواقع الاجتماعي وكنّ الجدات بمثابة المنبع المتدفق للعديد من الحكايات الجميلة والمعبرة التي يتواصل بها المجتمع مع الأطفال عبر الزمن باعتبارها وسيلة للتعبير ونقل القيم وبالتحديد في الأوقات التي يحتاج فيها الطفل إلى الحكاية ويكون على استعداد للتلقي والتروي بها، ولم تخلو الحكاية الشعبية والتي كانت من أكثر الآداب انتشارا من اختلاق بعض الحبكات والشخصيات الخرافية مثل شخصية "أم حمار" التي نصفها الأعلى بشري والنصف السفلي لجسد حمار ويكون وقتها ظهورها الظهيرة، وكل ذلك من أجل إعطاء الأطفال فكرة عامة عن مخاطر الخروج من البيت في هذا الوقت والتعرض للمخاطر ومنها ضربات شمس الصيف، ومع مرور الزمن ترك التطور الإعلامي والتواصلي الذي يشهده العالم أثره البالغ في مكانة الموروث الشعبي والتراثي حتى أهملها أغلب الناس ولم تعد تشكل تلك الضرورة والأهمية في حياتهم ولم يعد الناس يشعرون بحاجتهم أو حاجة أطفالهم إليها.
وجاء ذلك في الأمسية الأدبية التي أقامتها اللجنة الثقافية بأسرة الأدباء والكتاب تحت عنوان "توظيف الحكاية الشعبية في مناهج الطفولة المبكرة" لمنى جاحي وأدار الأمسية إبراهيم سند وذلك في الثامنة والنصف من مساء الأربعاء الماضي في مقر الأسرة بالزنج ضمن فعاليات البرنامج الثقافي للفترة من أكتوبر 2016 حتى يناير 2017، الذي يشتمل على برنامج ثقافي حافل ومتنوع يتضمن لقاءات أسبوعية لملفات ثقافية متنوعة ونوعية تجمع بين الشعر والسرد والترجمة والمسرح والسينما وأدب الطفل وورش العمل المتخصصة، وتشير منى جناحي إلى مشروع توظيف الحكاية الشعبية في مناهج رياض الأطفال حيث الطفولة المبكرة وما يمكن لهذا المشروع أن يترك من أثر تربوي وعلمي كبير على الأطفال بسبب عمق الخيال في الحكاية الشعبية وخاصية سحر حبكة أحداثها وبعد أن حلّت الشاشة الصغيرة محل الجدّة كجدة عصرية متطورة.
ولم تخفي جناحي الرؤى المتشائمة التي ترى صعوبة إدماج الحكاية الشعبية وغيرها من صور التراث في المجال التربوي في قبالة من فريق من النقاد ومعهم بعض التربويين ممن يرون إمكانية ذلك ويوصون بضرورة اعتماد الحكاية كوسيلة تربوية أساسية تستعمل للقيام بنشاطات متعددة في صفوف الروضة والمرحلة الأولى من التعليم، ويرى هؤلاء أن أن بعض أنواع أدب الطفل ومنها الحكاية الشعبية لا زالت قادرة على العيش وسط ثورة التكنولوجيا وما يشهده العالم من تطور تقني متسارع، فكثير من الدراسات أظهرت أن القصة أي كان نوعها تؤثر بشكل مباشر وكبير على الطلاقة اللغوية عند أطفال ما قبل المرحلة الابتدائية وفي اكتسابهم للمفردات اللغوية وتنمية الخيال لديهم وتحفيز النمو العقلي، كما يرى بعض التربويون بأن القصة أو الحكاية الشعبية بما تتضمنه من أجواء ساحرة تبعث في نفس الطفل الهدوء والسكينة.
وتعود منى جناحي لتصف الحكاية الشعبية على أنها نصوص ذات أبعاد قيميّة واجتماعية أصيلة وتعالج بدورها مضامين اجتماعية وإنسانية أساسية من القضايا والهموم التي لا زالت تقع ضمن عالم اليوم مثل الفقر، الجوع، الظلم والمساواة، ومن هنا تضع الدكتورة منى جناحي المعايير التربوية للحكاية الشعبية وتشدد على اختيار النص الجيد، مراعاة الحاجات النفسية للأطفال، اختيار الحكاية الشعبية الملائمة لطور النمو الذي يقع فيه الطفل في مرحلته العمرية، تميز النص بالصدق وعدم مخالفتة قوانين العلم واللغة، الإتصال بالأصالة وأن يستمد من التراث، التقيد بالقيم الإنسانية والقومية، احترام التقاليد والأعراف السائدة النافعة والتميز بالبساطة واللغة الحية.
وتقترح منى جناحي خلال الأمسية إستراتيجية لتوظيف الحكاية الشعبية في المنهج التربوي لمرحلة الطفوة المبكرة، كمدخل للتعلم المتكامل للأطفال وتقدم فيه تفصيلا واضحا ومتكاملا وترسم الأهداف العامة لمجالات النمو والتعلم ومنها المجال القيمي، المجال الاجتماعي، المجال النفسي الاجتماعي، المجال الجسمي الحركي والمجال المعرفي، وتختتم الأمسية بتقديم تعليمات للمعلمة وأولياء الأمور في كيفة سرد الحكاية الشعبية واتقان فنها من أجل تقريب محور الحكاية للطفل وتعزيز الأهداف التربوية المنشودة والإسهام في تحقيقها بأسلوب متناسب مع قدرات الطفل.