يتفق علماء الاقتصاد والسياسة على أن الطبقة الوسطى ‹›middle class›› تلعب دوراً محورياً في التنمية، وأنها صمام الأمان لتقدم وازدهار المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، فكلما اتسعت هذه الطبقة وأصبحت أكثر استقرارا كلما ارتقى المجتمع الى مستويات أفضل وأرقى في النمو والتقدم، وأصبح قادرا على تحقيق أهدافه الاستراتيجية والتقدم الى مصاف الدول المتقدمة. وعلى ذلك ينصح الاقتصاديون متخذي القرار السياسي بضرورة الاهتمام بهذه الطبقة وحمايتها، والعمل على توسعتها لتشمل أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع.
إن النظام الاقتصادي الذي يفشل في حماية وزيادة هذه الطبقة يكون نظاما فاقدا للحكمة والرؤية الاقتصادية البعيدة المدى ونظاما يتميز بالفوضى وسوء التدبير. هذه الطبقة التي يجب أن تكون محمية وتحت الرقابة المباشرة من قبل مهندسي النظام الاقتصادي، هي مصدر النمو والازدهار والاستقرار الأمني والاجتماعي ومصدرا رئيسيا للابتكار والابداع.
الطبقة الوسطى التي اجتهد علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع في تعريفها وتفسيرها وتحديد دورها في التنمية ألفت عليها كتب ونظريات، ولاتزال تشغل فكر المحللين والكتاب. فمنذ عام 1775 عندما أطلق عليها هذا الاسم الكاتب الإيرلندي جيمس برادشو والذي قال انها تتوسط موقعا بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين في أوروبا، وحتى يومنا هذا لاتزال هناك اجتهادات عديدة تتعلق بالمفهوم وفلسفة ودور هذه الطبقة. عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عرفها بأنها الطبقة التي تجلس في وسط الهرم الاجتماعي، اي أنها تكون بين الطبقة العاملة الشعبية الكادحة الفقيرة والطبقة العليا الثرية الارستقراطية البرجوازية والتي تتمتع بفوائض مالية ضخمة. وقد ذهب بعض المفكرين إلى أن هناك عوامل رئيسية تعمل على التحديد الطبقي للمجتمع تشمل ملكية الأرض، وملكية رأس المال، والنسب، واستقلالية المنصب ومواقع القوة.
إن تمركزها الاجتماعي الوسطي له مؤشرات كثيرة منها مستوى الدخل، حيث تتمتع بمستوى دخل يمكنها من ممارسة دورها في الاستهلاك العام حيث تمثل عنصرا أساسيا في حجم الطلب العام ومن ثم الداعم الرئيسي لنمو الناتج المحلي الإجمالي. كما تتمتع بقدرة إجمالية على الإدخار ومن ثم الاستثمار وزيادة حركة دوران رأس المال. كما تتمتع هذه الطبقة بمستوى جيد من التعليم والثقافة والمعرفة والمهارات العملية التي تمكنها من شغل الوظائف التي يخلقها الاقتصاد الوطني في القطاعات المختلفة، الأمر الذي يعني بأن صاحب القرار الاقتصادي يعتمد اعتمادا كليا على أفراد هذه الطبقة كأداة اقتصادية هامة في عملية تنفيذ الخطط والاستراتيجيات الاقتصادية وهي بذلك تمثل الضمان لبناء مستقبل زاهر للأجيال القادمة.
في الاقتصادات المستقرة يتم التعامل مع مكونات هذه الطبقة على أنها خزينة من رأس المال البشري المثقف الواعي أو كما سماها البعض بأنها ذات رأس ماليا ثقافياً. أي أنها العمود الفقري للمجتمع لما لها من مساهمة اجتماعية اقتصادية فعالة. وقد ذهب الكاتب برادشو إلى وصف هذه الطبقة بالرأسمالية التي صارعت طبقة النبلاء وقادة الثورة الفرنسية حيث نجحت في الإطاحة بالنظام السياسي القديم، وذلك بفضل ما تمتلكه من مال ووعي وعلم وثقافة.
إن ما يميز طبيعة هذه الطبقة هي أن حجمها يتغير بشكل دائم ويعتمد نموها على تحسن ونمو الاقتصاد الكلي والوضع المالي للبلد، وأن حجمها قد يتناقص مع ضعف البيئة الاقتصادية وسوء استخدام الموارد المتاحة وعدم ملاءمة السياسة الاقتصادية. فكلما ازدهر الاقتصاد وتحسن وضعه المالي وتنوعت مشاريعه التنموية ومصادر الدخل وزاد الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة نمت هذه الطبقة وأصبحت قادرة على استقبال قادمين جدد من الطبقة الأدنى الفقيرة.
إن نمو هذه الطبقة وتحسن وضعها المعيشي وقدراتها المهنية والعلمية مرهون بوجود استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي، وبتبني سياسة اقتصادية فعالة وقادرة على استغلال الموارد المتاحة في تنويع القاعدة الانتاجية بحيث لا يعتمد الاقتصاد على قطاع معين وإنما على القطاعات الاقتصادية المختلفة.
في دول مجلس التعاون اجتهد الكثير من الكتاب والمحللون في تحديد وتعريف الطبقة الوسطى، وقد ذهب البعض منهم الى القول بأن الثراء الذي يتمتع به المجتمع الخليجي بفضل وفرة الموارد النفطية والطفرة في أسعار النفط في بداية العقد السابع من القرن الماضي ونعمة الاستقرار الاقتصادي، ساهم بشكل كبير في انكماش الفقر وزيادة عدد الأثرياء، حيث أن متوسط دخل الفرد في هذه الدول شهد طفرة هائلة خلال العقود الأربعة الماضية، وقد تتجاوز مثيلاته في الدول المتقدمة. وعلى ذلك، يعتقد البعض أن الطبقة الوسطى الخليجية تمثل تقريبا 80 في المئة من المجتمع الخليجي.
إنه، وفي ظل غياب المعلومات والمؤشرات الدقيقة، يصعب على الباحث تحديد نسبة وحجم هذه الطبقة، فلا يوجد لدينا معايير ومؤشرات اقتصادية يمكن الاستعانة بها في تحديد الحجم الطبقي، وحتى خط الفقر، وهو مؤشر هام في التعرف على المستوى المعيشي لأي بلد، غير معرَّف في دول المجلس، وكذلك بالنسبة الى حد الأدنى للأجور، فليس هناك معايير ثابتة ومتفق عليها في هذه الدول.
إن مقاييس تحديد الطبقي يختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر باختلاف الثقافات وحجم وطبيعة الاقتصاد. فعلى سبيل المثال يعرف البنك الدولي الدول الفقيرة بأنها تلك الدول التي ينخفض فيها دخل الفرد عن 600 دولار شهريا، بينما برنامج الإنماء للأمم المتحدة أضاف معايير أخرى تعبر مباشرة عن مستوى رفاهية الانسان ونوعية الحياة. وفي الكويت مثلا وبحسب معايير الأمم المتحدة وقياسا إلى متوسط دخل الفرد قد تكون الأسرة المكونة من 5 أفراد تحت خط الفقر في حال كان مدخولها الشهري أقل من ألف دينار، فالفقير في بنغلادش أو الصومال لا يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أوروبا أو أميركا الشمالية أو أي دولة متقدمة أخرى.
إنه، ولغرض معرفة حجم الطبقة الوسطى، ينبغي معرفة طبيعة النظام الاقتصادي ومصادر التمويل الأساسية الذي يعتمد عليها هذا النظام. ففي دول مجلس التعاون تلعب الدولة دورا محوريا في توزيع الايرادات النفطية، وذلك من خلال الميزانية الحكومية، وهي الأداة الاقتصادية الأساسية بل الوحيدة التي تستخدمها الدولة بفاعلية في عملية تنفيذ سياساتها الاقتصادية وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
فمن خلال هذه الأداة تقوم الدولة بتوزيع الإيرادات على القطاعات الاقتصادية وضخ السيولة كلما احتاج الاقتصاد لذلك. فالاقتصاد الخليجي يعتمد بشكل أساسي على المصروفات الحكومية، والتي تعتمد على الإيرادت النفطية. ما يعني أن النشاط الاقتصادي والمستوى المعيشي للفرد مرتبط بشكل كبير على أسعار النفط في الأسواق العالمية، فكلما ارتفعت هذه الأسعار كلما ارتفعت الايرادات النفطية وأصبحت الدولة قادرة على ضخ المزيد من السيولة في الاقتصاد لتزيد من النشاط الاقتصادي وحركة دوران رأس المال، ويزداد بذلك متوسط دخل الفرد. والعكس صحيح تماما فعندما تنخفض أسعار النفط تتقلص قدرة الدولة على ضخ السيولة ما يؤدي إلى انكماش الاقتصاد وانخفاض متوسط الدخل، ويزداد عدد الفقراء. وهذا يعني أن حجم الطبقة الوسطى أصبح مرهون بحجم الايرادات النفطية، فقد تصل نسبتها إلى 80 في المئة من المجتمع الخليجي، عندما تكون أسعار النفط مرتفعة، وقد تضمحل وتصل إلى 30 في المئة عندما تنكمش تلك الأسعار. أي أن هذه الطبقة في الاقتصاد الخليجي معرضة دائما إلى هزات كبيرة وخطيرة وخاصة أن نظامنا الاقتصادي مرتبط بمتغيرات اقتصادية وسياسية دولية. كما أنه يمكن القول أنه وخلال فترة الازدهار، فإن الطبقة الفقيرة في دول المجلس قد يعادل مستواها المعيشي الطبقة الوسطى في مجتمعات أخرى، وخاصة أن هذه الطبقة تتمتع بمستوى تعليمي ومهارات تمكنها من المساهمة في النشاط الاقتصادي.
إنه، وبفضل الإيرادات النفطية الضخمة، فقد نجحت اقتصاديات دول المجلس خلال العقود الأربعة الماضية في تكوين طبقة وسطى واسعة يتسع حجمها مع زيادة التدفقات النفطية، كما نجحت أيضا، في صناعة أثرياء من العمالة الوافدة وحولتهم من أسر فقيرة منعدمة الدخل إلى الطبقة الوسطى في مجتمعاتها. إن استقرار هذه الطبقة أصبح مرتبطاً باستقرار أسعار النفط الذي انخفض من 140 دولارا في نهاية عام 2014 إلى سعره الحالي وهو 51 دولارا للبرميل. وسيكون لذلك نتائج سلبية على استقرار الاقتصاد ونموه. لا تتحمل الحكومات وحدها المسئولية في تراجع الطبقة الوسطى، فالأفراد يتحملون جزءا من المسئولية أيضا، فهناك غياب لثقافة الادخار والاستثمار، وشيوع ثقافة الاستهلاك غير الانتاجي.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"العدد 5209 - السبت 10 ديسمبر 2016م الموافق 10 ربيع الاول 1438هـ
ربما تقصد الطبقة هناك في الغرب وليس هنا.
الطبقة التي تتحدث عنها اندثرت مع الخلل الاقتصادي والسياسي الحاصل في منطقة الشرق الاوسط.
سحقت وما تبقّى منها إن شاء الله سيسحق قريبا جدا
أعتقد بهذا الشكل بأن كثير من الموظفين ليسوا من الطبقة الوسطى وهم أولئك الذين تقل رواتبهم عن ١٠٠٠ دينار حتى لو كان مهندس أو مدرس الخ