العدد 5209 - السبت 10 ديسمبر 2016م الموافق 10 ربيع الاول 1438هـ

قراءة للزمن في محطات جغرافية... وتدريب ضِمْني على نوع من السَّفَر

«الزمن أطلالاً» لمارك أوجيه...

يحملنا كتاب عالِم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه «الزمن أطلالاً» الصادر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، العام 2016، إلى قراءة محطات جغرافية، وليس فقط التعرُّف عليها. قراءتها. وفي ثنايا تلك القراءة نستلُّ أحياناً حزمة من القيم، بعضها إنساني، وبعضها تاريخي. رحلة من وإلى المكان تارة، واستجلاء لبشر وشخصيات تارة أخرى. عواصم كبرى، وأخرى مهملة، ربما بعد أن تم استحلابها لقرون: مناطق في إفريقيا وأميركا الجنوبية نموذجاً، وأصقاع أخرى.

كأن الكتاب - بل هو كذلك - بحسب جانب من التعريف به: «تدريب ضمني على نوع من السفر». في السفر إعادة قراءة، وإعادة اكتشاف لما سبق. ولمن كانت لهم الريادة في افتتاح ذلك الدرس. لا يعود الماضي الذي نستحضره في نطاق الترميم كما هو، بل هو صورة مُتخيَّلة عن ماضٍ نتصوَّره، ونحاول محاكاته. كل ذلك بفعل الصورة التي ثبَّتناها عن تاريخية المكان، وشكله، ضمن فضائه الزمني.

الممتع في الكتاب - وكله ممتع بمساحة الإرهاق التي يضعنها فيها أوجيه، هو ذلك التدفق من المعارف والتواريخ والنماذج، والقراءات الفارقة.

هل ثمة تدريب ينسحب على السفر كما ينسحب على أنشطة الإنسان المتعلقة بالاكتشاف والدرس؟ يريد الكتاب أن يقول لنا بصيغة من الصيغ: السفر لا يتحدَّد في الانتقال من مكان إلى آخر. الكائنات الأخرى تفعل ذلك أيضاً! يتحدَّد بالمحصِّلات التي يمكن أن تنشأ وتنتج عنه. من هنا يكون السفر درساً، وهو درس - بالمناسبة - يُعيدك إلى مكانك الأول وأنت مُحمَّل بانتباه ربما لم يكن حاضراً. أن تُعيد قراءة مكانك والبشر، في استحضار للمكان الذي جئت منه ومازال يسكنك. ولا يشغلك زمن ذلك المكان عن إعادة قراءة زمنك.

الارتحال اختيار في الحياة

لهذا ربما نفهم مرامي أوجيه حين يقول في الفصل الأول من الكتاب «عالِم الإثنولوجيا وزمنه»: «كان يُنظر إلى الارتحال منذ بضع سنوات كاختيار في الحياة، أو كشكل من أشكال الالتزام». هل هو كذلك؟ اختيار للتقلُّب في الجغرافيا من جهة، وهو تقلُّب له درسه الذي قد يكون إشكالياً في كثير من الأحيان. إشكالياً من حيث «صناعة الالتباس» التي كثيراً ما يتم إقحامها في موضوع الدرس، والتزام بتعميق الاعتراف بامتدادنا اليوم إلى بشر الأمس، وأمكنتهم وأزمنتهم في الوقت نفسه. حسنةً كانت الأمكنة والأزمنة أم كانت سيئة.

يضعنا الكتاب أمام استشهادات علماء الأعراق البشرية (الإثنولوجيا)، غير البعيد عن العلم الذي برع فيه أوجيه «الأنثروبولوجيا». أسماء كبيرة في الصميم من الكتاب، من بينها ليفي ستراوس. وأمام التعريفات المرتبطة بالأطلال التي تتباين، لكنها تنزع ضمن هذا الحقل المعرفي إلى أن تكون أكثر تحديداً، وإن انتاب الحقل نفسه غياب المُحدِّدات، التي لا يمكنها ادَّعاء حسمها لكثير من الظواهر والمفاهيم وأنماط الحياة والثقافة التي يتم بحثها ودرسها.

تذهب بنا تعريفات «الأطلال» في أغلب القواميس إلى «ما بقي شَاخصًا من آثار الدِّيار ونحوها»، وأيضاً «الطَّلَلُ من الدَّار ونحوها: مَوضِعٌ مرتفع في صَحْنها يُهَيَّأ لمجلِس أهْلِها، أو يُوضَعُ عليه المأكَلُ والمشرَبُ». يدخل المكان الذي هجرْته، ولم تأتِه لردح من الزمن، في عِداد الأطلال؟ لنرَ الصورة من زاوية أخرى، وضمن ظاهرة عرفها الشعر الجاهلي، إذا ما أردنا استفتاح هذه الكتابة بما ننتسب إليه؛ إذ تتلخَّص تلك الظاهرة في الشعر الجاهلي في الوقوف على الأطلال؛ أي زيارة المكان الذي تشخص فيه منازل القبيلة أو الحبيبة. ما يجعل المكان أطلالاً هو قيمة الزمن الذي تتم استعادته وتذكُّره. وهذا الكتاب تذكُّر في صورة من الصور، لكنه تذكُّر يتم ربطه بفعاليات حياتية وفكرية، ويخلص إلى استنتاجات تعيد النظر إلى المكان، وإعادة اكتشافه، وتدارك ما فات من ذلك الاكتشاف.

العَمَارَة السريِّة

يشير أوجيه في مُفتتح كتابه، إلى إن رؤية الأطلال تجعلنا بسرعة نستشعر زمناً غير ذاك الذي تكلَّمت عنه كتب التاريخ، أو ذلك الذي تحاول عمليات الترميم أن تحييه. إنه زمن خالص عصيّ على التاريخ «وغائب عن عالمنا الطافح بالصور والمُخايلات والتشكيلات المتجدِّدة، عن عالمنا العنيف الذي لا يتسع الوقت فيه للأنقاض كي تصبح أطلالاً. إنه زمن ضائع يسعى الفن إلى أن يعثر عليه».

هناك كلام عن واحدة من أهم مُحصِّلات الترحال أو السفر، وهي الكتابة، يكتب أوجيه: «كي نكتب، لابد من العودة إلى البيت، ويجب أن نقيم مسافة بين الذات التي تخالط الآخرين، والذات التي ستصفهم - هل هذه الطريقة تحديداً هي التي تستطيع أن تحدِّد ماهية الذاكرة؟ يتشكَّل التذكُّر عن بعد، مثله كمثل عمل فني، بل كأثر فني بعيد دخل لأول وهلة في مرتبة الخراب، لأنه، والحق يقال، ومهما استطاع أن يكون دقيقاً في التفاصيل، لم يكن قط حقيقة شخص بعينه، ولا حقيقة من يكتب «لأنه بحاجة إلى ارتداد زمني ليبصره أخيراً، ولأنه أيضاً لم يكن حقيقة لأولئك الذين يصفهم؛ إذ يمثِّل - في أحسن الحالات - الرسم اللاواعي لتطوراتهم، والعمارة السرية التي لا تُكتشف إلا عن بُعد».

يحضر ليفي شتراوس، كما يحضر فرويد في هذه الكتابة، عن الأول يشير أوجيه إلى أنه استشفَّ «درجة القرابة الوثيقة بين علم الإثنولوجيا والذاكرة (أو النسيان)، وخلفها استبصر التماثل بين التذكُّر والخراب». ذلك أن من بين أهداف علم الأعراق، إعادة صياغة تاريخ الإنسان ومعرفة التغيُّرات الثقافية الطارئة على سطح الأرض مع تغير الأجيال. كل تلك الروابط لا يمكن لها أن تحقق هدفها ما لم تستند إلى ذاكرة، سواء تلك التي كُتبت، أو تلك التي تشتغل في الحقل تسجيلاً ومتابعة ورصداً للراهن.

يوضح أوجيه بأننا لن نجد في كتابه لا يوميات ولا مذكرات، ذلك أنه - بحسب ما أشار - لم يدوِّن قط يومياته؛ علاوة على أن ذاكرته سيئة كما يضيف. لكن تظل خاصية الاستشعار، تلك التي يتكئ عليها بشكل يلازم علماء الأنثروبولوجيا، هي الأكثر حضوراً وانتباهاً في هذا الحقل، بتلك المراقبة للانتقال من قرن إلى آخر «أو بالأحرى، الانتقال من عصر لآخر»

الورشة وإعادة ترتيب الأطلال

يسأل أوجيه ماذا كان يبصر علماء الأنثروبولوجيا؟ «كانوا يبصرون حقلاً من الأطلال في بلبلتها مُدَّعين إعادة ترتيبها في ورشة لم يفقهوا معناها. هذا لا يعني أن البحث عن المنطقيات اللاواعية والضمنية كان بحثاً غير مشروع بذاته؛ ولكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يكون التحليل المكتمل لواقع راهن». ويرجع بنا إلى عقديْ 1960 و 1970؛ كيما يبرِّر الأنثروبولوجيون وجودهم ميدانياً، من خلال تأكيدهم لصحافييهم ومحدِّثيهم أنهم يريدون «أن يصنعوا تاريخهم». أوجيه يرى أن ذلك التأكيد الذي ظل مُراوحاً بين الحقيقة والكذب، تم استقباله استقبالاً حسناً، «لكن الوفاق الناجح كان يستند وقتها إلى مُلابسة».

في زيارته إلى شاطئ الألادّيين (قوم يعيشون في القسم الغربي من إفريقيا، وخصوصاً في ساحل العاج، ويتكلمون لغة «كوا»، بلغ عددهم نحو 23000 شخص في العام 1993)، العام 1965، لا يُقدِّم مشاهداته الظاهرة للمكان. لا يقدِّم تاريخاً - وإن فعل في جزئية من فصل حمل عنوان «الأطلال والفن» بقدر ما يُقدِّم استرجاعاً لزمن ما صنَّفتْه عينه على أنه أطلال. يقف على تلك الأطلال باعتبارها جزءاً من نص تاريخي يجري استنطاقه. يمزج في سرده لجانب من تاريخ ذلك الجزء من إفريقيا، بين الفترة الكولونيالية... وأمراء النخاسة «الذين نالوا تعاطف المستعمر معهم».

في الوقت الذي يُقدِّم فيه أوجيه مشاهداته، ويسرد لنا قصة رحلته تلك، ربما بانتظام (القفز من الحكاية الواحدة إلى ما يمكن تسميته تشخيصاً للعلاقة التي تبدو ملتبسة بين السائح... عالم الإثنولوجيا... السائح الذي يعيد تركيب وترتيب المكان وكأنه لم يغادر زمنه).

يقول: «في البلدان التي يعمل فيها عالم الإثنولوجيا بشكل تقليدي، لم يكن للأطلال اسم أو وضع معيَّن، فهي دائماً مرتبطة بأوروبا التي صنعتْها أحياناً، وتُقْدم على ترميمها في أغلب الأحيان، وتزورها دائماً. الأديان المُسمَّاة أحياناً بالأديان التلفيقية للإيحاء بأنها تجمع تقاليد عديدة، نشأت على الأغلب من الاتصال بأوروبا التي راحت تستعمرها في جميع القارات».

ما يبقى مما دمَّرناه

انتقالات أوجيه من جغرافية إلى أخرى، لا تشعره بالتباين والاختلاف العميق. الحقل الذي يشتغل فيه لا يعترف بتلك الفروقات الظاهرة، طالما أن الاشتغال يمس ذاكرة... زمناً ضمن درس المكان الذي يُشكِّل الوعاء أو المجال العام للفحص وتأكيد ونفي فكرة... قضية... مسار من المسارات التي يهتم بها الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه. هذه المرة يأخذنا إلى اليونان. يظل موضوع الفن والدِّين مجالاً حيوياً، بطبيعة المكان نفسه، والتصاقه بالبعديْن.

«أن ينشأ الفن من الدِّين، هذا لا يُدهشنا بعد انغماسنا في تاريخ اليونان؛ لقد أظهر جان بيير فرنان جيداً أن الحاجة للدِّين لم تكن قط ضرورية جداً إلا في اللحظة التي حصل إبَّانها لجميع الذين يمارسون واجباتهم الدينية وعي بالطابع الخيالي والسردي الخالص لأساطيره التأسيسية، وفي متابعة هذا التحليل، نستطيع الإجمال قائلين، إن الفن ينبني على أطلال الدِّين».

يتساءل أوجيه: بأي معنى يلامس الفنُّ الأطلالَ؟ يحيلنا هنا إلى «مُعجم روبير الذي يقترح كلمة (ruine) بالمفرد وبصيغة الجمْع، وغالباً ما تُستعمل بالجمع، ويسوق المعجم التعريف الآتي: أنقاض صرح قديم متداعٍ أو هوى»، وبالمعنى المجازي يقول: ما يبقى (مما دمَّرناه أو مما تداعى)».

في المفارقة أن ثمة من يدمِّر كي يأتي آخرون محاولين إثبات ما يقترب من الحقيقة. الصورة الأصلية... التفاصيل التي إن فقدت بعض ملامحها، لا تقدِّم لنا الصورة كما هي، بل كما نراها، نفترضها، نعتقدها نحن.

في زيارته أطلال غواتيمالا، وتحديداً موقع تيكال، وهو أهم موقع لحضارة المايا، وأدرج العام 1970 في سجلّ التراث العالمي لليونسكو، وبعد أن يُقدِّم ما يشبه خريطة تواجده هناك، وخريطة ما يشبه نوازعه ومشاهداته وملاحظاته على الخرائط، يتساءل: إلى أي ماضٍ كان، تُحيلني هذه الأطلال؟ «كانت تُحيلني إلى ماضٍ في حضارة المايا أطلعتني عليه بعض الكتب، ولكن عمرها (نحو ألفي سنة) كان يحرمني من كل نقطة علّام، ونعرف، فضلاً عن ذلك، أن كل ملَك كان يبني صروحه فوق أنقاض الصروح التي ابتناها أسلافه، والتي صارت تشكِّل مداميكه السفلية الجديدة (...)».

الانفعال والصبغة الجمالية

يشير أوجيه إلى أن تأمُّل الأطلال يختلف عن السفر في التاريخ، معتبراً أنه تجربة الزمن، «الزمن الخالص»؛ إذ في مجال الماضي، ظل التاريخ شديد الثراء والتنوُّع والعمْق، ولا يُختزل بعلامة حجرية أفلتت منه، وبعمل مفقود يجده الآثاريون الذين ينقِّبون في ثنايا المكان/ الزمان. وفي مجال الحاضر، «يكون الانفعال ذا صبغة جمالية، ولكن مشهد الطبيعة يندمج فيه بمشهد الأوابد».

موضحاً، أن الأطلال تضيف إلى الطبيعة شيئاً لم يعد له وجود في التاريخ، مع أنه مُرتبط بالزمن؛ إذ «لا يوجد منظر من دون إبصار ومن دون استيعاب لهذا المنظر. إن منظر الأطلال الذي لا ينقل أي ماضٍ بشكل كامل، والذي يلمِّح ذهنياً إلى مواضٍ عديدة وهو منظر ذو كناية مزدوجة نوعاً؛ ما يتيح للنظر والوعي بديهية مُزدوجة لوظيفية ضائعة، وراهنية كثيفة، ولكنها مجانية. إنه يضفي على الطبيعة علامة زمنية، والطبيعة في المقابل تنهي إدراجها في التاريخ فتسحبه نحو اللازمني. (الزمن الخالص) هو ذلك الزمن الذي يفتقر إلى تاريخ، ويستطيع الفرد وحده أن يعيه، ويقدر مشهد الأطلال أن يعطيه حدساً ولو بشكل عابر».

أما في فصل «سياحة وسفر... منظر وكتابة»، فيشير أوجيه إلى أن السياحة «تُبرز بامتياز بعض ملامح الحداثة الفائقة: وهي معنيَّة بالتسهيلات الجديدة في مجال التنقُّل العالمي؛ إن انفتاح الكوكب بأسره على السياحة تعزَّز بانتشار المعلومات والصور؛ وحتى البلدان (المُغلقة) سياسياً راحت تنفتح عموماً على السياحة. وأخيراً تتبدَّى الرحلات كـ (مُنتج) متطور يستطيع الأفراد إلى حد ما أن يشتروه. فضلاً عن ذلك، تُعيد السياحة إنتاج عدد من الثنائيات والملابسات الخاصة بعصرنا».

يضعنا أوجيه أمام ثلاث ثنائيات، الأولى هي ثنائية العالم الذي يرى أن السياحة وحركات الهجرة الكبرى تتضخَّم متزامنة. وتأخذ السياحة كل يوم أهمية متنامية، وأصبحت البلدان التي كانت مُستوردة للسيَّاح منذ بضع سنوات مُصدِّرة لهم. أما الثنائية الثانية فهي ذات طبيعة متباينة. فالسياحة شأنها شأن عدد من الظواهر الاجتماعية الأخرى، تجمع إلى طريقتها التعارض بين المحلي والعام. في البلدان التي تزدهر فيها السياحة نحو الخارج بتميُّز لافت، تتعزَّز وتُعلَن أكثر فأكثر إرادة جذب سيَّاح الداخل والخارج بشكل ملحوظ.

فيما ترتبط الثنائية الثالثة بالذهاب والإياب، بالماضي والمستقبل: وهذه أيضاً ثنائية يمكن أن تعبِّر عن نفسها مكانياً، ولكن جوهرها زماني.

تصنيع الذكريات... الشعائر وخلْق الهوية

يركِّز أوجيه في هذا الفصل تحديداً على تصنيع الذكريات، والذي يرى أنه جانب مهم ومهيمن في الغالب على النشاط السياحي. فآلات التصوير وشتى أنواع الكاميرات التي تزداد إتقاناً وسهولة في الأداء، تلعب جزئياً الدور نفسه، فتكون كالمراقبة والتصور والكتابة لدى الأدباء الرحَّالة إبَّان القرن التاسع عشر.

ويوضح أنه في زمن اجتاحت فيه الصورة الحيِّز العام وارتُهن لها، تبدَّت «غريزة التصوير» لدى أولئك الذين راحوا يحلمون بنقل العالم إلى علِّيتهم السوداء، كقيمة تشخيصية لمرض ما.

يثير أوجيه هنا مسألة الشعائر في معظم مجتمعات العالم، والتي تهدف معظمها - فيما يمكننا ملاحظته - إلى تعزيز أو خلق هوية فردية أو جمعية، وإلى إناطتها بلقاء الآخرين، وبالتواصل معهم؛ ذلك أن الهوية تُبنى بالتفاوض مع مختلف الآخريِّات: كالأجداد، والأتراب، والمتصاهرين، والآلهة. ما تُعلِّمنا إياه الشعائر هو عدم الفصل بين بناء الذات ولقاء الآخرين. ويحصل أن تتخذ الشعائر - بصورة مجازية أو غير مجازية - شكل رحلة، ويجب ألَّا نستغرب أن تتضمَّن الرحلة شيئاً من الشعيرة، والشعيرة شيئاً من الرحلة.

وعن الأطلال، تلك التي تم ترميمها أو لم يطلْها الترميم بعد يكتب أوجيه «هي في آن مواقع وصروح وتوليفة وتسوية إلى حدٍّ ما: إنها مادة لمعلومة شديدة التوثيق وتندرج في ديكور لا ينفصل عنها (وهو الذي نجده في الملصقات السياحية: رمال الصحراء، الغابة المدارية، التلال، شبه الجزر المتوسطيِّة (...)».

في السياق نفسه، يشير إلى أن أعمال الترميم افتراضية، «شأنها شأن مشاريع إعادة البناء والمخايلات، فإنها تنتمي إلى مجال الصورة: هي خاصة بالصورة، وهي صورة الواقع البعيدة أو المفقودة التي تحل محلها. بيْد أن أسبقية الصورة لذاتها هي التي تشكِّل فرادتها، وتشكِّل ماضيها هي: ذلك أن ماضي الصورة يختلف عن ماضيها التاريخي المُفترض، وعن الماضي الفريد، بل يختلف عن الصورة التي كان المشاهدون قد كوَّنوها عنها. وبالتالي: في الحاضر المُستدام تزول المسافة بين الماضي وتصوُّره».

أكثر من ضوء

يُذكر أن مارك أوجيه، عالم أنثروبولوجيا، وأستاذ بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، ورئيسه سابقاً. من مؤلفاته: «اللاأمكنة: مدخل إلى أنثروبولوجيا ما فوق الحداثة»، والذي سيصدر عن مشروع نقل المعارف الذي يشرف عليه الطاهر لبيب، ويهدف إلى ترجمة 50 كتاباً عالمياً. كما يشار هنا إلى أنه صدر عن المشروع: «تفكر... مدخل أخاذ إلى الفلسفة»، لسايمن بلاكبرْن، و «هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم... بحث في الخيال المكون»، لأستاذ الفكر اليوناني بول فاين و «لغات الفردوس» للمؤرخ موريس أولندر، وكتاب «التحليل النفسي علماً وعلاجاً وقضية» لعالم التحليل النفسي مصطفى صفوان.

أما مترجم الكتاب، جمال شحيِّد، فهو باحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق). له من الترجمات: «تاريخ الجمال» لجورج فيغاريلو، و«أصول الفكر الإغريقي» لجان بيير فرنان، والذي سيصدر عن السلسلة نفسها.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً