ظلت مسألة الهوية الوطنية تشغل بال المفكرين والباحثين العرب على اختلاف انتماءاتهم السياسية، وصدرت لهم في هذا الشأن دراسات كثيرة، لكن الهوية على رغم عناصرها ومحدداتها الثابتة، فإنه لا يكاد بلد عربي إلا ومر بضبابية طارئة من إشكالية وملابسات تحديدها، بفعل جملة من العوامل والتحديات الداخلية والخارجية المتشابكة، سياسية واجتماعية واقليمية ودولية. ولعل واحدة من آخر الدراسات التي عنيت بهذا الموضوع، الدراسة التي أعدها الباحث الاستراتيجي المصري السفير محمد نعمان جلال، وصدرت في كتاب أوائل العام الجاري تحت عنوان «هوية مصر في عالم متغيّر... رؤية استشرافية»، وقد وُفق الباحث في دقة اختياره هذا العنوان.
والدراسة التي بين أيدينا تتكون من 6 فصول: الفصل الأول يتعلق بالهوية المصرية بين البُعد التاريخي ومتطلبات القرن الحادي والعشرين، والفصل الثاني خصصه الباحث عن الإسلام ومفهوم النظام السياسي للدولة، والفصل الثالث عن التنمية السياسية كمدخل لإعادة بناء الهُوية، والفصل الرابع عن الهوية المصرية بين الانبهار العالمي والصراع الداخلي، والفصل الخامس تأملات في أحوال مصر المعاصرة، والفصل السادس عن هوية مصر في القرن الحادي والعشرين، والفصل السابع والأخير تناول فيه الباحث أفكاراً للمستقبل لبناء نموذج الهوية المصرية. ولعل قارئ الكتاب بتأنٍ وتمعنٍ، سيجد أن أكثر فصوله أهميةً وارتباطاً مباشرةً بالعنوان هما الفصلان الرابع والسابع، بينما بقية الفصول على رغم صلتها الافتراضية بالموضوع وغنى محتواها العلمي بالتحليل السياسي، فقد غاب عنها تأصيل وتوضيح صلاتها بالهُوية الوطنية، اللهم إلا على نحو عابر لايتوقف عنده المؤلف طويلاً. وكما هو معروف فقد تنازعت مصر تاريخياً 3 أشكال: فرعونية وإسلامية وعربية - قومية، وجرت في هذا الصدد سجالات بين مفكريها وكبار مثقفيها في ثلاثينات القرن الماضي، لكن ظلت القدرة على نسج توليفة دائمة منسجمة، تأخذ هذه الأبعاد الثلاثة مجتمعة بعين الاعتبار، في إطار هُوية وطنية واحدة مركبة دون نفي خصوصيتها، كما هو الحال في سائر الهويات العربية الأخرى معدومة في أغلب الأحيان، سواء على الصعيد النظري أم على الصعيد العملي.
في تقديمه للكتاب يؤكد الكاتب الصحافي سيد حسين أن مصر أكدت في عهد عبدالناصر أنه لا تناقض بين الإسلام والعروبة، وأن البناء الداخلي بدأت مصر تفقده منذ سياسة الانفتاح الاقتصادي على الغرب، والتي دشنها الرئيس الأسبق السادات بلا ضوابط ليزداد الفقراء فقراً وليزداد الاغنياء نهباً، وأن لا سبيل لمصر للخلاص إلا بانتهاج العدالة الاجتماعية من خلال القضاء على الفقر والبطالة وتوسيع الطبقة الوسطى (وهذا ما نادى به المؤلف أيضاً في كتابه)، وتخليصها من الرأسمالية المتوحشة، وتجسيد حق المصريين جميعاً في ثروات بلادهم. وعلى هذا المنوال، أكّد الباحث بأن اشكالية الهوية ظهرت بقوة منذ تولي الرئيس السادات الحكم ورفعه شعار «مصر أولاً»، وإن إهمال السلطة مشاغل المواطن جعله يشعر بالاغتراب في وطنه، ومن ثم يضعف إحساسه بالانتماء والهُوية، وأنه ينبغي الاعتراف بضرورة المشاركة السياسية للمواطنين، وأن لا قيمة للهياكل الديمقراطية الشكلية دون أن تُبعث فيها الروح الديمقراطية الحقيقية، وأن الفكر الواحد الإقصائي لن يحقق التقدم مهما كان الزعيم ملهماً أو عبقرياً.
وحدد الباحث 3 ركائز تُبنى عليها هُوية الأمم: الأولى صناعة وطنية تفي باحتياجات المواطنين الأساسية، والثانية قوة عسكرية ذات كفاءة عالية، والثالثة ديمقراطية حقة تسمح بأكبر قدر من المشاركة الشعبية السليمة وتتناوب الأحزاب السلطة فيها (ص 36 - ص 52). ونظراً لغياب أو ضعف هذه الركائز الثلاث، وما آلت إليه مصر من حال مزرٍ في لحظاتها التاريخية الراهنة؛ رثى المؤلف كرامة بلاده بمرارة «وأخذت تمد يدها لقوم كانت يدها تعلوهم وتطعمهم وتسقيهم لقرون وليس لعقود!».
وتحت عنوان «ضرورة تحديد المفاهيم والمصطلحات»، يتطرق المؤلف إلى «العلمانية»، كونها من المصطلحات الإشكالية في اللغة السياسية العربية، والتي لم تحظَ بالفهم العلمي الصحيح لدى السياسيين والمثقفين العرب، وخصوصا المنتمين منهم للتيار الإسلامي، فيُعرّفها بأنها ليست ضد مفهوم الدين ولا معادية له، بل هي تقتضي عدم تدخل النظام السياسي فيه وتوظيفه إياه لخدمة أو تبرير سياساته، ويُفترض أن يقف على الحياد من ذلك، منبهاً لخطورة تضليل الاتجاهات الفكرية المتطرفة التي تربطها بالإباحية والالحاد والحرية المطلقة في كُل شيء.
والحال أن الهويات الوطنية العربية لا يمكن تقويتها وإزالة الضبابية عن معالمها ومقوماتها، ومنع المواطن من لجوئه للهويات الفرعية من طائفية وعرقية وقبلية، إلا من خلال تهيئة كل سُبل العوامل الداخلية التي تناولها الباحث بالتحليل الموضوعي، والتي لا تنطبق على الهوية المصرية فحسب، بل وكل الهُويات العربية، ومن ثم وجوب ربطها أيضاً بالهُوية القومية، والتي تستمد كل منهما قوتها من الاُخرى، فلا قوة للهوية الوطنية بدون ربطها بالهوية القومية، ولا قوة لهذه الأخيرة في ظل ضعف وتشظي الأولى، وغياب تماسك الجبهة الداخلية والحفاظ على لُحمة النسيج الوطني. وإذ نؤكد على ما تشكله هذه الدراسة من إضافة قيّمة للمكتبة العربية، جاءت في توقيتها المناسب، لما لهذا الموضوع الحيوي من أهمية فائقة لا غنى للباحثين المصريين بوجه خاص والباحثين العرب بشكل عام عنها، فإن المأمول من الباحث في أي طبعة منقحة قادمة، إيلاء هاتين المسألتين، لصلتهما الوثيقة بالهوية، اهتماما أكبر وليس عابراً، ونعني بذلك ربط الهوية الوطنية بالهوية القومية، بغية عزل الاتجاهات القُطرية الانعزالية عن العرب من جهة، والحيلولة دون تفشي التعصب الديني الطائفي لما له من دور مُدمّر في إحياء الروح الطائفية، وتفتيت الوحدة الوطنية فانهيارالدولة من جهة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5208 - الجمعة 09 ديسمبر 2016م الموافق 09 ربيع الاول 1438هـ