«لا اشدَّ وقعاً من سيرة ولدك الذي لا تأتي جثته. وبدلاً من أن تحضر أخباره فقط، والخبر الأول: مات والرفاق، ولم تُرفع جثثهم. بعدها عليك أن تقفل باب السيرة بنهاياتها الكثيرة: أن جثة ولدك/ زوجك ورفاقه مشَّطتْها الذئاب والديدان والهوام».
تلك «لوعة» من «نشيج النُّشُج»، كما يحلو لي أن أسمِّي كتابة الأديبة، وحافظة التراث اليمني، ووزيرة الثقافة السابقة أروى عبده عثمان التي حملت عنوان «أرامل الحرب في اليمن... تقيَّة تهذي».
تلتقط أروى نموذجاً إنسانياً طال إغفاله في زمن الحرب والسلْم معاً: الأرامل. لا تقترب من دوافع الحرب وأسبابها، فهي ليست في معرض تحليل سياسي، أو تقديم رؤية استراتيجية، أو اقتراح حلول للخروج من الجحيم. فالحرب تظل حرباً بذلك العمى الذي يسِم أولها ومنتصفها ونهاياتها. كل الحروب في العالم تشير إلى النموذج البشع والأول، ذلك الذي اجترحه الكائن البشري، وظل مُستمرئاً له. الحروب التي تدِّعي اقتراح شكل ومضمون جديدين للعالم، بعد أن تعمل الآلة عملها في تدشين «التشويه» الذي يطال ما تبقَّى من مسحة جمال في هذا الكون. الحروب التي بدأت بقتل الأخ الأول لأخيه، ضمن «حالة فردية»، أو «تصرُّف شخصي»، بحسب بعض الأدبيات التي صارت مألوفة! أسَّست لما سيُعرف لاحقاً في أدبيات الخسْف وسيرة العالم وهو في أطوار وهْم تمدُّنه، بالحروب.
في السلْم تتسع الهوامش التي تُوضع فيها الأرامل. قد يرى بعض أن موقفاً مثل ذاك يظل «نصف جريمة»، لتأتيَ الحروب مُكمِّلة لتلك الجريمة في تحوِّل الأرض والسماء معاً إلى هامش عملاق يمكن القبض على بداياته، لكن من الجنون والعبث ادِّعاء القبض؛ أو حتى توهُّم رؤية نهاياته.
في نية الحروب ما يشبه ذهابها إلى الاحتمال المفتوح: ألَّا تتوقف، وألَّا تترك للعاطفة مجالاً ولو كان بحجم «سمّ الخياط»، كي تتورَّط في مراجعات تضع حدَّاً لها، ولمواهبها في الخراب.
تنفتح أروى عبده على نص لا يتيح لك الانشغال بالضجيج من حولك، ولا الصمت نفسه. وفي حضور الليل، تذكير بالنهار الذي كان نهاراً. في الحروب يتفتَّت الزمن، وتندلق الأوقات كأنها عصير الحياة، ذلك الذي ينفجر من الأوردة بفعل قذيفة أو صاروخ لا وقت لديه للخطأ. سقوطه في أي جزء من المكان، ولو خلا من بشر، هو بحد ذاته إصابة لقلب الأرض، بفعل الرعب الناتج عن دويِّه.
وفي فضاءات رحْبة من النص، تحضر الأوقات. هي الأوقات نفسها التي تتشظّى بالنسبة لأرملة وجدت نفسها بين أكثر من حصار: حصار الحرب، وحصار الغياب، وحصار المجهول. الأرض التي تُنبت الموت تنعدم فيها الأوقات، ويكون الليل سيدها، حتى في رابعة النهار.
«في الليل سيهمد الجميع ليغطُّوا في سابع نومة، إلا الأرامل اللواتي تسحقهن التنهُّدات الحارقة، سيمتن في زهو العمر الصاخب، في ليلة وضحاها يصبحن الأب والأم والصديق والحارس للأولاد وجدران البيت والزمن، وحارسة حكاية (الشهيد)».
تكتب أروى ما لا يُراد له أن يُرى. تستدرج الهوامش إلى الشمس كي تكون هي قلب المكان. كل مكان له قلب، وقلب المكان امرأة، حتى لو كانت بقلب منكسر، ودموع هي برسم الغصَّة والتأجيل. في قراءة الفاتحات. في الزوجات اللاتي لا يفتقدن الدلال في هذه العتمة، بقدر ما يفتقدن سيد الحضور، ولو جاء مزنَّراً بعبوسه.
«مع كل فاتحة صبح وانسدال قمر، يخفت دلع الأمهات والزوجات. ما بعد الحرب، لن نسمع: (يا نظر عيوني، ويا كش من عيني، ويجعل يومي قبل يومك، وقوِّي عظامك، فديتك صح بدنك). من هدهدات الحصن الحصين لتعويذات الأم لرجل البيت والأسْرَة، وأبو العيال، وأخ العيال، وسراج البيت والحوية (حوش البيت): «ذهب الأحبَّة ولن يرجعوا أبداً».
حتى وهن أرامل، تبحث الهزيمة عن كوَّة كي تكسب رهان الحروب بالنيابة. هزيمة المرأة، المرأة وهي أرملة، حرب أخرى مفتوحة على عار العالم. عار مكانها على الأقل.
«هزيمة امرأة. تذبل أوراقها وأزهارها الغضَّة قبل أن تفتش في نيسان. سيغلق باب الدار يا تقيَّة، وتُسدل ستائر النوافذ. وتصطك بصقيع الوحشة الطويلة المستذئبة، فمن يطرق باب مخدعك المتخشِّب، والمتحجِّر؟ لا، مؤنس يا تقيَّة. لا من يلملم الحنين، ويجفِّف الدمعة ويمسح الأنين (...)».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5208 - الجمعة 09 ديسمبر 2016م الموافق 09 ربيع الاول 1438هـ