حنين، ترقب، رغبة في معرفة المزيد، صدمة لقراءة ما يعتمل في الذاكرة والقلب.
كل هذه المشاعر تستيقظ وتتأهب ليكون الوجدان مأخوذاً بها عند قراءة رواية ص.ب: 1003 للكاتب والروائي الإماراتي سلطان العميمي، الصادرة عن «ثقافة للنشر والتوزيع»، و «الدار العربية للعلوم ناشرون» في مارس/ آذار 2014، والتي وصلت لطبعتها الرابعة حتى تاريخ هذه الكتابة عنها.
يستوقفك الإهداء وهو يوهمك أو يخبرك أن هذه الرواية قد تكون حقيقية وأن الكاتب يتمنى لو أن «عليا» تقرأها فتكتب له رسالة أخيرة باسمه لا باسم «عيسى»: «إلى كفين ستعبران من هنا للتصفح، كانتا قد مرّتا على قلبي يوماً كأصابع مسيح». وما إن تقلب الورقة حتى تجد تنبيهاً يحاول لجم فضولك وربما يزيد منه، وهو يخبرك قبل أن تقرأ الرواية أن تتذكَّر بعد أن تنتهي منها ألَّا تفكِّر كثيراً بما يمكن أن يكون مكتوباً في رسالة عليا الأخيرة.
هكذا تلج النص وأنت تعرف أنه سيحتوي رسائل مكتوبة من امرأة تدعى عليا، وأن رسالتها الأخيرة لن تكون بين يديك. تدخل فاتحة الكتاب فتجده لم يُكتَب منذ بداية الحكاية، فيزداد التشوّق لقراءة ما سيأتي في الصفحات المقبلة.
لم يكتب الكاتب روايته على لسان راوٍ واحد، بل تعدَّد فيها الرواة بين بشر وجمادات، ابتداءً من صندوق البريد رقم 1003 الذي يبحث عن يد صاحبه الذي ينتظر أن يعود إليه بعد انقطاعه، يستغرب من أن هناك يداً أخرى باتت تتلصّص على ما به من رسائل. وذلك من خلال فصلين في الرواية كُتِبا على لسان صندوق البريد؛ لإيصال المطلوب بشكل أكثر دقة، يجعل القارئ يقول في نفسه: «نعم كيف فاتني هذا»؟! إضافة إلى مبنى البريد الذي يأنس بحارسه ويستمتع بتأمُّل المراجعين الذين يودعون رسائلهم في الصندوق الأحمر، أو يتفقدون صناديق بريدهم بحثاً عن رسالة بعينها، وكيس الرسائل البرتقالي المتسخ الذي يحمل الفرح والحنين والذكريات والأشواق والأسرار من خلال احتضانه لكل الرسائل في رحلتها، فضلاً عن أظرف الرسائل التي تحمل على ظهرها طوابع وعناوين وأسماء، وتحمل بداخلها أسراراً كتبت بنبض القلب وأخرى بالدموع، ولم يغفل الكاتب قلم الكتابة الذي طالما كتبت به عليا رسائلها إلى صديقها البعيد، وغرفة عيسى الخالية بعد رحيله، ودفتر الرسائل، وشيطان عليا ويوسف الذي يخطط ويوسوس ويغوي ويزين، والبطاقة البريدية التي أكدت أننا «لا نملك الزمن، لكننا نملك الطريقة التي نستهلكه بها، وأن الأعمال العظيمة تبقى صامدة في وجه الزمن»، والمكتبة التي توجد في الشارقة ويأتيها الزوار من كل الإمارات الأخرى. وحقيبة السفر وغيرها من الجمادات التي كانت تروي دورها بشيء من الحس الجميل الذي يزاوج بين الدقة في الوصف وأناقة العبارة المكتوبة من غير تكلّف.
كما لم يكن كل الرواة من الجمادات، فقد أخذ الدور موظف البريد وساعي البريد الذي تصله أكثر عبارات الشكر في العالم على حد قوله، وعيسى الذي توفي تاركاً غصة في قلب والدته ووالده، ويوسف الذي خان أمانة وظيفته وأسرار صديقه، وعليا القارئة المغتربة وغيرهم من الشخوص الذين أخذوا نصيبهم في السرد والإفصاح عما تعتمل به قلوبهم ووجدانهم.
لغة الرواية لم تتكلف كما هو الحال مع بعض الروايات الخليجية الآن، ولم تكن المشاعر مبتذلة، ولم تلعب القصة على أحاسيس المراهقين، لكن الحبكة تجبر القارئ الفضولي على قراءتها حتى آخر صفحة رغبة في معرفة النهاية التي بدت ناقصة من غير معرفة محتوى رسالة عليا الأخيرة.
لا إسهاب في الرواية مع حشو قليل، حتى في الرسائل التي كانت تحتوي معلومات وأخباراً وأحداثاً تاريخية وواقعاً معاشاً في تلك الحقبة الزمنية. فعلى رغم أن القصة بسيطة الحدث تتمركز في موضوع الرسائل بين شخصيتين دخل بينهما ثالث بعد أن تقمص شخصية صديقه، إلا أن القارئ على موعد مع بعض الأحداث التاريخية الإماراتية بشكل رئيس والبريطانية أحياناً، والتي وقعت في الثمانينات وتحديداً في العامين 1986 - 1987 وهي الفترة التي شهدت المراسلات بين عليا وعيسى ومن ثم بينها وبين يوسف.
من الواضح أن العميمي أراد توظيف مخزونه الفكري والتاريخي بشكل مختلف من خلال الرواية. كيف لا وهو القارئ والشاعر والكاتب والباحث في التاريخ والتراث؟ لكنه أراد لهذا التوظيف أن يأتي رقيقاً بسيطاً غير متخم. ولا تعني بساطة اللغة في الرواية خلوّها من الجمال؛ إذ يمكن للقارئ التوقف عند بعض العبارات التي تحمل حِكماً أو صوراً مغايرة في التركيب تضيف إلى الحدث بعداً جمالياً من خلال اللغة، إضافة إلى اهتمامه بالوجداني من السرد، الذي يستدعي حنين القارئ ويفتح فضاءات لذاكرته، وخصوصاً حين يكون من هواة الكتابة أو المراسلة أو حتى الرياضة.
ومن يقرأ الرواية لا يشك لحظة أن كاتبها سعى للتعرف على حياة موظفي البريد ويومياتهم، إن لم يكن شاركهم في عملهم في فترة من فترات حياته، وخصوصاً أنه لم يغفل حتى التفاصيل الصغيرة في هذا المجال من خلال سرد غير متهلهل في مساراته.
ربما توحي الأحداث للقارئ أن النهاية لن تكون بهذا الشكل، خصوصاً مع تسارعها في الصفحات الأخيرة، لكنها تنعطف فجأة فتنتهي لتلبي نداء المنطق، وتجعل القارئ يفكر: ليت كل الضمائر تصحو كما حدث مع يوسف، حين قرر أن يوقف العبث الذي بدأه فضولاً، وكيف كانت رد فعل عليا حين قرأت الرسالة الأخيرة ليوسف؟ وماذا كتبت في رسالتها الأخيرة، وخصوصاً أنها أرسلتها باسم عيسى؟ ولكن كيف يمكن أن ترسلها باسم آخر ويوسف وقع رسالته بـ «أنا»؟